من الأستاذ "سيد قطب" إلى المتثاقلين عن الجهاد (3)

نعم : إن هناك ضعفاً في البشر . ولا يملك الناس أن يتخلصوا من ضعف البشر ، ومشاعر البشر وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ويفقدوا خصائصه ومميزاته فلهذا خلقهم الله ليبقوا بشراً ولا يتحولوا جنساً آخر لا ملائكة ولا شياطين ولا بهيمة ولا حجراً . إن الناس يفزعون ويضيقون بالشدة ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة ولكن المؤمنين - مع كل ذلك - مرتبطون بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل وتحرسهم من القنوط . وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة أو ضقنا بالهول والخطر والشدة والضيق فعلينا ألا نيأس من أنفسنا وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا ، أو أننا لم نعد نصلح لشئ عظيم أبداً . ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا نمجده لأنه من فطرتنا البشرية . ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا ، . . هنالك العروة الوثقى ، عروة السماء ، وعلينا أن نتمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيراً بالنصر فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق . وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده وثباته على عهده مع الله فمنهم من لقيه ومنهم من ينتظر أن يلقاه . (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )) .
واستعلاء المؤمن على الضعف البشري حين ينهض للجهاد في سبيل الله أمر ممكن وقد وقع فعلا:
(( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون )) . إنه نص رهيب ! ! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمن بالله وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (( المؤمن )) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان ، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى تصديق وتحقيق . حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرماً منه وفضلاً وسماحة أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شئ لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . . . كلا . . إنها صفقة مشتراة لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء ، وفق المرسوم لا يتلفت ولا يتخير ولا يناقش ولا يجادل ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . . . والثمن هو الجنة والطريق هو : الجهاد والقتل والقتال والنهاية : هي النصر والاستشهاد . عونك اللهم ! فإن العقد رهيب . . . وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم (( مسلمين )) في مشارق الأرض ومغاربها قاعدون لا يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد . . ولا يقتلون ولا يقتلون ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال . إنها بيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن - قادر عليها - لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه . ومن هنا تلك الرهبة التي استشعرها وأنا أخط هذه الكلمات . إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق . . كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله .
والمتخلفون عن الجهاد يخلعون هذه البيعة عن أعناقهم ذلك أنهم ناكلون متثاقلون لا يؤدون حق الله عليهم وقد أغناهم وأقدرهم ولا يؤدون حق الإسلام وقد حماهم وأعزهم ولا يؤدون حق المجتمع الذي يعيشون فيه وقد أكرمهم وكفلهم ومن ثم يختار الله - سبحانه - هم هذا الوصف :
(( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف )) فهو سقوط الهمة ، وضعف العزيمة ، والرضا بأن يكونوا مع النساء والأطفال والعجزة الذين يخلفون في الدور لعجزهم عن تكاليف الجهاد وهم معذورون . . أما عن أولئك فما هم بمعذورين ! وما يؤثر الإنسان السلامة الذليلة والراحة البليدة إلا وقد فرغت نفسه من دوافع التطلع والتذوق والتجربة والمعرفة فوق ما فرغت من دوافع الوجود والشهود والتأثر والتأثير في واقع الحياة وإن بلادة الراحة لتغلق المنافذ والمشاعر وتطبع على القلوب والعقول والحركة دليل الحياة ومحرك في الوقت ذاته للحياة ، ومواجهة الخطر تستثير كوامن النفس وطاقات العقل وتشد العضل وتكشف عن الاستعدادات المخبوءة التي تنتفض عند الحاجة ، وتدرب الطاقات البشرية عن العمل وتشخذها للتلبية والاستجابة وكل أولئك الوان من العلم والمعرفة والتفتح يحرمها طلاب الراحة البليدة والسلامة الذليلة .
إنهما طبيعتان . . . طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء . . . وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء . . . وإنهما خطتان . . خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون وخطة الاستقامة والبذل والكرامة فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولو الطول والمقدرة الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل جاءوا لا ليتقدموا الصفوف كما تقتضيهم المقدرة التي وهبها الله لهم ، وشكر النعمة التي أعطاها الله إياهم ولكن ليتخاذلوا ويتعذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولا يدفعون عن سكن دون أن يستشعروا ما في هذه الفعلة الذليلة من صغار وهوان ما دام فيها السلامة . وطلاب السلامة لا يحسون بالعار فالسلامة هدف الراضين بالدون !
نقلا عن كتيب " معركتنا مع اليهود
- قرأت 200 مرة