أكلوا من حلوائهم فحطوا فى أهوائهم

ناصر محمد ابو سعدة - شبكة الدرر الشامية
نمر بمرحلة عصيبة فى تاريخ أمتنا المسلمة، كثرت فيها الفتن الحالكة المهلكة،قل من يثبت فيها وينجوا منها، والذى يزيد من صعوبة هذه الفتن أن من عليهم العمل على إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، هم من يعبد الناس للطواغيت، ويضل الناس ويفتنهم عن دينهم، ويلبس عليهم الحق بالباطل.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وبعد

نمر بمرحلة عصيبة فى تاريخ أمتنا المسلمة، كثرت فيها الفتن الحالكة المهلكة،قل من يثبت فيها وينجوا منها، والذى يزيد من صعوبة هذه الفتن أن من عليهم العمل على إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، هم من يعبد الناس للطواغيت، ويضل الناس ويفتنهم عن دينهم، ويلبس عليهم الحق بالباطل.

إنهم الدعاة إلى الله، على طريق الأنبياء .. والدعوة وصفها أحسن وصف ربعى بن عامر رضى الله عنه عندما سأله رستم قائد الفرس (فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.قالوا: وما موعود الله؟قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.)

البداية والنهاية – بن كثير ج9- ص 622

وإذا بهولاء يقومون بعكس مهمتهم كل على حسب بعده وقربه وجرمه .. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها.

روى البخاري في صحيحه عن حُذَيفَة بن اليمان - رضِي الله عنه - أنَّه قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدرِكني، فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم)، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، وفيه دَخَنٌ)، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: (قومٌ يَهدُون بغير هَديِي، تعرِف منهم وتُنكِر)، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم؛ دُعَاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهُم إليها قذَفُوه فيها)، قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: (هم من جِلدَتِنا، ويتكلَّمون بألسنتنا)، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتَزِل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يُدرِكَك الموت، وأنت على ذلك).

وكان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يشددون جدا فى النهى عن إتيان أبواب السلاطين .. وهذ من فقههم ووعيهم بما يؤول إليه هذا الأمر فى الغالب.

وهذه جملة من الآثار فى ذم العالم بدخوله على الحاكم الظالم

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ» جامع بيان العلم وفضله – بن عبد البر1/631

عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ عَلَى أَبْوَابِ السُّلْطَانِ فِتَنًا كَمَبَارِكِ الْإِبِلِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُصِيبُوا مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابُوا مِنْ دِينِكُمْ مِثْلَهُ أَوْ قَالَ مِثْلَيْهِ» جامع بيان العلم وفضله - بن عبد البر 1/639

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونُ: " كَانَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَخٌ يَأْتِي الْقَاضِي وَالْوَالِي بِاللَّيْلِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمَا، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الَّذِي يَرَاكَ بِالنَّهَارِ يَرَاكَ بِاللَّيْلِ وَهَذَا آخِرُ كِتَابٍ أَكْتُبُهُ إِلَيْكَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: فَقَرَأْتُهُ عَلَى سُحْنُونَ فَأَعْجَبَهُ وَقَالَ: مَا أَسْمَجَهُ بِالْعَالِمِ أَنْ يُؤْتَى إِلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ فَيُسْأَلُ عَنْهُ فَيُقَالُ: إِنَّهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ". جامع بيان العلم وفضله - بن عبد البر 1/641

وأخرج أبو داود، والبيهقي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدا فقد جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله بعدا).

قال البخاري في تاريخه: (سمعت آدم بن أبي إياس يقول: شهدت حماد بن سلمة ودعاه السلطان فقال: اذهب إلى هؤلاء! لا والله لا فعلت).

عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين، فقال: أقرحتم جباهكم، وفرطحتم نعالكم، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم؟! أما إنكم، لو جلستم في بيوتكم لكان خيرا لكم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم) .. اخرجه أبو نعيم فى الحلية 2/150

وقال محمد ابن مسلمة: (الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء)

إحياء علوم الدين 2/143

كان مسروق بن الأجدع ينهى عن السلطان، فدعاه زياد فولاه السلسلة، فقيل له في ذلك فقال: اجتمع علي زياد وشريح والسلطان، فكانوا ثلاثة وكنت وحدي فغلبوني.

الأمير عبد الله بن طاهر، يقول ( إني لأحب أحمد بن حنبل و حمزة البوشنجي، لأنهما لايتلطخان بأمر السلطان ) فانظر توقير الأمراء لمن يترفع عن دنياهم

( من لازمها – أبواب السلطان - لم يسلم من النفاق ولم يصب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه أغلا منه ) العلامة المناوى .. فيض القدير 3/120

ولابن المبارك رحمه الله تعالى:

كُلِ الجاوُرسَ وَالأَرُزَ ... بِالخُبزِ الشَعيرِ

وَاِجعَلَن ذلِكَ طَعاماً ... تَنجُ مِن حَرِّ السَعيرِ

وانأى ما استطعت هدا ... ك الله عن باب الأمير

سير اعلام النبلاء 8/415

قيل لعبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه أن إسماعيل بن علية قد ولي الصدقات فكتب إليه ابن المبارك:

يا جاعِلَ العِلمِ لَهُ بازِياً ... يَصطادُ أَموالَ المَساكينِ

اِحتَلتَ الدُنيا وَلَذّاتَها ... بِحيلَةٍ تَذهَبُ بِالدَينِ

فَصِرتَ مَجنوناً بِها بَعدَما ... كُنتَ دَواءً لِلمَجانينِ

أَينَ رِوايَتُكَ في سَردِها ... لِتَركِ أَبوابِ السَلاطينِ

أَينَ رِوايَتُكَ فيما مَضى ... عَنِ اِبنِ عَونِ وَاِبنِ سيرينِ

إِن قُلتُ أُكرِهتُ فَذا باطِلٌ ... زَلَّ عَمّارُ العِلمِ في الطينِ

قال: فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى.

سير اعلام النبلاء 8/412

(حكى أبو فروة أن طارقا صاحب شرطة خالد بن عبد الله القسري مر بابن شبرمة ؛ وطارق في موكبه فقال ابن شبرمة : أراهـا وإن كانـت تُـحَـبُّ كأنـهـاسحابة صيف عن قريب تقشَّعُ

اللهم لي ديني ولهم دنياهم ، فاستعمل ابن شبرمة بعد ذلك على القضاء فقال له ابنه أبو بكر : أتذكر قولك يوم كذا إذ مر بك طارق في موكبه فقال : يا بني إنهم يجدون مثل أبيك ، ولا يجد أبوك مثلهم ؛ إنَّ أباك أكل من حلوائهم فحط في أهوائهم .)

أما ترى هذا الدَّيِّن الفاضل كيف عوجل بالتقريع ، وقوبل بالتوبيخ من أخص ذويه ، ولعله من أبر بنيه ! فكيف بنا ونحن أطلق منهم عِنانا وأفتق جَنانا ، إذا رمقتنا أعين المتتبعين ، وتناولتنا ألسن المتعنتين ، هل نجد غير توفيق الله تعالى ملاذا ، وسوى عصمته معاذا ) .. أدب الدنيا والدين للماوردي ص 40 )

إنظر إلى البون الشاسع بين هؤلاء وأولئك .. شتان شتان.

كانوا صادقين مع أنفسهم رغم أخطائهم .. ولم تكن أخطائهم بهذه البشاعة .. ولا تصرفاتهم بهذه الشناعة

يقر ويعترف أنه أكل من حلوائهم فحط في أهوائهم .. بدون تزييف للحقائق ولا خداع للنفس أو الغير .. وكان جرمه أنه تولى القضاء لأمير ظالم فقط .. وكان السلاطين فى هذه الأزمنة تجاهد فى سبيل الله وتذب عن الدين وتحكم الشريعة وتقوم بالفتوحات لنشر الإسلام فى ربوع الدنيا ..

أما الآن تجد شيوخ ودعاه .. لحى وعمائم .. يؤيدون الظالم المتجبر الطاغية المبدل للشرع ويعطيه شرعية .. يقول أحدهم على عمله هذا أنه أرجى عمل له عند الله .. يذكرنى ذلك بمسلم بن عقبه الذى يسميه بعض السلف مسرف بن عقبة بعد قتال أهل المدينة وقتل الكثير من الصحابة وأبناء الصحابة رضوان الله عليهم جميعا .. واستباحته المدينة ثلاثة أيام يفسدون فيها .. وينتهكوا المحرمات .. قال ابن كثير رحمه الله أن مسلم بن عقبة قال عند وفاته: (اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أحب إلي من قتل أهل المدينة وأجزى عندي في الآخرة وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي ثم مات قبحه الله ودفن بالمسلك فيما قاله الواقدي ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية فمات بعده في ربيع الأول لأربع عشرة ليلة خلت منه فما متعهما الله بشيء مما رجوه وأملوه بل قهرهم القاهر فوق عباده وسلبهم الملك ونزعه منهم من ينزع الملك ممن يشاء.)

سبحان الله وكأن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله يعيش معنا الآن ويرى ما نرى من بعض المنتحلين للعلم الشرعى والمنتسبين زورا وبهتانا للسلف الصالح

يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله عن أحدهم :

( هو مكيدة مدبرة ، وفتنة مُحَضّرة ، ولو قال قائل في وصفه :

شَعْوذَةٌ تخْطِر في حِجْلينِ ... وفتنة تَمشي على رجلَيْنِ.

... عرف الناس وعرفنا عرفان اليقين وعلمنا حتى ما نُسائل عالما ، أن هذا الرجلَ مازال منذ كان الاستعمار في المغرب -لا كانا-آلة صماء في يده ،يديره كما شاء ، يحركه للفتنة فيتحرك ، ويدعوه إلى تفريق الصفوف فيستجيب، ويندبه إلى التضريب والتخريب فيجده أطوع من بنانه ، ويريد منه أن يكون حُمَّى تُنْهِكُ ، فيكون طاعونا يُهلك ؛ وأن يكون له لسانا ،فيكون لسانا وأذنا وعينا ويدا ورجلا ومقراضا للقطع،وفأسا للقلع ، ومعولا للصدع ؛ وما يشاء الاستعمار إخماد حركة ، إلا كانت يديه البركة ،وما يشاء التشغيبَ على العاملين للصلاح ، والمطالبين بالإصلاح، إلا رماهم منه بالداهية النَّكراء والصّيْلم الصّلعاء ؛وما يُعْجزُهُ الاضطلاع بعبْء ،أو الاطلاع على خَبْء ، إلا وجد فيه البغية و الضالة ؛وما يشاء التشكيك في رَأي جميع ، أو التشتيت لشمل مجموع ،إلا وجد فيه المُشكك المُحكِّك ،والخادم الهادم ؛وقد تهيأت فيه أدوات الفتنة كلها حتى أنه أُعِدَّ لذلك إعدادا خاصّا.وكأنه (مصنوع بالتّوصية)،وكأنما هو رزق مهيَّأ مهنأ للاستعمار ؛ ومازال الاستعمار مرزوقا بهذا النوع )

قلت : ومازال المجرمين يرزقون بهذا النوع كثيراً جدا فى هذا الزمان.

وربما يقول قائل ربما كانوا مجتهدين، والمجتهد يدور بين الأجر والأجرين.

وهذا ليس صحيح على إطلاقة بل فيه تفصيل يوضحه شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله فيقول : ( فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق . وقد سلك طريقه.

وأما متبع الهوى المحض : فهو من يعلم الحق ويعاند عنه .

وثم قسم آخر - وهو غالب الناس - وهو أن يكون له هوى فيه شبهة فتجتمع الشهوة والشبهة ; ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات  .

فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور . وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب . وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوى : فهو مسيء . وهم في ذلك على درجات حسب ما يغلب وبحسب الحسنات الماحية .

وأكثر المتأخرين - من المنتسبين إلى فقه أو تصوف - مبتلون بذلك (.

مجموع الفتاوى ج29 ص 44

قلت : وما أكثرهم فى هذا الزمان.