وقفات مع قاعدة: (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين)

انجوغو مبكي صمب
تُعدُّ قاعدة (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين) من القواعد الشرعية المهمة، التي يندرج تحتها الكثير من الأحكام المتعلقة بأئمة الدين؛ من حكَّام وأمراء وعلماء ودعاة وغيرهم، وفيما يلي وقفات سريعة مع هذه القاعدة أرجو من خلالها تقريب المعاني المستكنة في ثناياها؛ نصيحةً لأئمة المسلمين وعامتهم، والله وليُّ التوفيق.

    تُعدُّ قاعدة (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين) من القواعد الشرعية المهمة، التي يندرج تحتها الكثير من الأحكام المتعلقة بأئمة الدين؛ من حكَّام وأمراء وعلماء ودعاة وغيرهم، وفيما يلي وقفات سريعة مع هذه القاعدة أرجو من خلالها تقريب المعاني المستكنة في ثناياها؛ نصيحةً لأئمة المسلمين وعامتهم، والله وليُّ التوفيق.

الوقفة الأولى: نسبة القاعدة:

إن القـواعـد الشرعيـة عبـارة عـن معـانٍ مستـنبـطـة مما تقرر في شرع الله؛ بدلالة الكتاب أو السنة أو الإجماع، غير أن أهل العلم من الفقهاء والأصوليين والمتكلمين وغيرهم يقومون بصياغتها ووضعها في قالب يجعلها جامعة مانعة مختصرة ووافية، ثم يستدلون عليها بما يشهد لها بالصحة والاطِّراد، وهو الأمر الذي يسـوِّغ نسبة تلك القواعد إليهم ولو على سبيل التجوز.

ومن هذا الباب نقول: إن هذه القاعدة منسوبة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - فالمطَّلع على كتبه وكتب تلاميذه يجد تلك القاعدة واردة فيها بكثرة تصل إلى حدِّ التواتر، حيث يذكرها شيخ الإسلام في تعليقاته على بعض الآيات القرآنية الدالة على معنى القاعدة، أو يصف بها بعـض أئمـة الـدين ممن سبـق مـن الأنبـياء والمرسـلين أو أتباعهم عليهم الصلاة والسلام، أو حين يصف مَنْ بعدهم من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم.

 ومن ذلك: قوله - رحمه الله تعالى -: «فمن أعطي الصبر واليقين جعله الله إماماً في الدين»[1]. وقوله في موضع آخر: «ولهذا كان الصبر واليقين اللذان هما أصل التوكل يوجبان الإمامة في الدين»[2]. وكذلك وَصْفُه أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بأن الله قد جمع له بين الصبر واليقين، وبهما استحقَّ وصف الإمامة في الدين[3].

وقد نَسبَ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة الصبر واليقين غيرُ واحد من تلاميذه، ومنهم على سبيل المثال: ابن قيِّم الجوزية - رحمه الله - حيث يقول في كتابه (مدارج السالكين): «سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين»[4]. وكذلك ابن كثير - رحمه الله - في كتابه (تفسير القرآن العظيم)، عند تفسير الآية (25) من سورة السجدة، حيث نسب القاعدة إلى بعض أهل العلم على سبيل الإبهام، والذي يعرف العلاقة التي تربط بين الإمامين ليكاد يجزم بأن ابن كثير لا يقصد بقوله: بعض العلماء؛ إلا شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، والله أعلم.

الوقفة الثانية: معنى الإمامة:

الإمامة لغة: من «أمَّ القوم، وأمَّ بهم: تقدَّمهم..، والإمام كل من ائتمَّ به قوم؛ كانوا على صراط مستقيم أو كانوا ضالين..، وإمام كل شيء قيِّمُه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، وسيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وإمام الجند قائدهم..»[5].

وأما الإمامة في الاصطلاح: فقد شاع في عُرْف الفقهاء أن الإمامة في الأصل مرادفة لكلمة الخلافة، وقد عرَّف العلماء الخلافة بتعريفات من أشهرها: تعريف الإمام الماوردي - رحمه الله تعالى - بأنها: «نيابة عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا بها»[6].

ويرادف لفظَ الإمامة في المعنى مصطلحُ الزعامة الكبرى، والولاية العامة، كما قال الإمام القلقشندي - رحمه الله تــعالى - في كــتابـه (مــآثر الأنــافــة)[7]، وكــذلك الملـك أو الولاية العظمى أو الرئاسة ونحوها؛ كما حقق ذلك الأستاذ عبد القادر عودة؛ رحمه الله تعالى[8].

غير أن المراد بالإمامة في هذه القاعدة أعمُّ وأشمل من الخلافة والسلطان والولاية؛ كما قد يتبادر إلى الأذهان، فهي هنا تعني: الرياسة الشرعية للأمة الإسلامية في حفظ الدين وسياسة الدنيا، ولا شك في أن هاتين الوظيفتين موكولتان في الدين الإسلامي إلى أولي الأمر من المسلمين، الذين تجب طاعتهم في المعروف؛ لقوله - تعالى - في محكم تنزيله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: ٩٥]، وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى - عند تفسير هذه الآية: «والتحقيق في معنى الآية الكريمة: إن المراد بأولي الأمر ما يشمل العلماء والأمراء؛ لأن العلماء مبلِّغون عن الله وعن رسوله، والأمراء منفذون، ولا تجوز طاعة أحد منهم إلا فيما أذن الله فيه...»[9].

وقد درج على ألسنة عوام المسلمين وخواصِّهم تلقيب المقدَّمين من أهل العلم والدعـوة بـ (الأئمة) قديماً وحديثاً وبدون نكير، وهو ما يدل على الإجماع على دخول العلماء والدعاة تحت اسم أئمة المسلمين وولاة أمورهم، ولذلك عقد الإمام اللالكائي - رحمه الله تعالى - فصلاً في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) سمَّاه: (سياق ذكر من رسم بالإمامة في السنة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة)، ذكر فيه من الصحابة والتابعين وغيرهم ممن تولَّى الخلافة ومَنْ لم يتولَّها، ممن ناب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الدين وإعلاء كلمة الله؛ من السلاطين والأمراء والدعاة والعلماء[10].

الوقفة الثالثة: معنى اليقين:

 قال الجوهري في تعريفه: «اليقين: العلم وزوال الشك، يقال منه: يقنت الأمر، واستيقنت، وتيقنت؛ كله بمعنى وأنا على يقين منه»[11].

وقد أورد ابن القيم في (مدارج السالكين) عدة تعريفات اصطلاحية لليقين، ومن أجمعها وأمنعها ما يلي:

1- قول الجنيد - رحمه الله -: «اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يتحول ولا يتغير في القلب»[12].

2- قول أبي بكر الورَّاق - رحمه الله -: «اليقين على ثلاثة أوجه: يقين خبر، ويقين دلالة، ويقين مشاهدة»[13]. ويشرح ابن القيم هذه الأنواع الثلاثة من اليقين قائلاً: «ويريد بيقين الخبر: سكون القلب إلى خبر المخبر ووثوقه به. وبيقين الدلالة: ما فوقه، وهو أن يقيم له مع وثوقه بصدقه الأدلةَ الدالة على ما أخبر به، وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد. وبيقين المشاهدة: أن يكون المخبر به في قلوبهم كالمرئي لعيونهم»[14].

 والملاحظ هو أن كلا التعريفين وافٍ بالمقصود، وهو أن اليقين هو العلم الذي لا يتطرَّق إليه شك، أو الإدراك التام، غير أنهما أقرب ما يكونان إلى اصطلاح المتكلِّمين وعلماء السلوك والتربية. وهناك تعريف آخر لليقين عند المنــاطقــة والأصــوليــين ذكره ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في مقدمة كـتابـه (روضـة الناظـر وجـنة المـناظر) حيـث يـقــول: «اليقـين ما أذعنت النفس إلى التصديق به وقطعت به، وقطعت بأن قطعها به صحيح بحيث لو حُكي لها عن صادق خلافه لم تتوقف في تكذيب الناقل؛ كقولنا الواحد أقل من الاثنين، وشخص واحد لا يكون في مكانين، وتصور اجتماع ضدين»[15].

فالمراد باليقين في الدين هنا: العلم التام والتصديق الجـازم بحـقائـق الـديـن؛ سواء كان ذلك مـا تعـلق بأصـولـه أو فروعه. أو بتعبير آخر هو: التصور الصحيح لمبادئ الإسلام.

الوقفة الرابعة: معنى الصبر:

المعـنـى اللغـوي للصـبر يـتـردَّد بيـن «الحبـس، والكـف، أو المنع، ومـنه: قُتِلَ فـلان صبراً إذا أُمسك وحُبس، ومنه قوله - تعالى -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: ٨٢]، أي: احبس نفسك معهم»[16].

وأما في الاصطلاح فهو: «حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش»[17].

درجات الصبر ومراتبه:

والصبر على درجات، هي:

1 - «الصبر عن المعصية بمطالعة الوعيد؛ إبقاءً على الإيمان، وحذراً من الحرام، وأحسن منها الصبر عن المعصية حياءً...»؛ فلا يقــرب كبائـر الذنـوب والمـعاصـي؛ مِنْ زنىً، أو شرب خمر، أو تعاطي ميسر، أو سماع غناء، أو نَظَرٍ إلى حرام، ويترفع عن الشبهات؛ كحلق اللحية مثلاً، أو مصافحة الأجنبيات، أو التدخين، وكلها من المحرمات في الشريعة الإسلامية على الراجح من أقوال العلماء لا يقترفها أهل الاستقامة في الدين من عوام المسلمين؛ فضلاً عن أئمتهم؛ لأن أكثرهم ما بين سابق بالخيرات ومقتصد في الطاعات، ويقلُّ فيهم الظَّلَمة لأنفسهم الفاسقون بارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر، قال - تعالى -: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِـمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْـخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: ٢٣].

 2 - «الصبر على الطاعة؛ بالمحافظة عليها دواماً، وبرعايتها إخلاصاً، وبتحسينها علماً...»، وأحب هذه الطاعات إلى الله بعد الإيمان فرائض الإسلام وأركانه من صلاة وزكاة وصيام وحج، وعلى أئمة الدين أن يوطِّنوا أنفسهم على التقرب إلى الله - تعالى - بعد هذه الواجبات بالنوافل، ويقوُّوا صلتهم به - سبحانه - بسائر التطوعات؛ حتى يكونوا من أولياء الله وأحبائه الذين يكونون مع الله في الخلوة والجـلوة؛ لما في الحديث القدسي من قول الله - تعالى - فيما يرويه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعلُه تردُّدي عن نَفْس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءَتَهُ»[18] .

3- «الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج، وتهوين البليَّة بعد أيادي المنن، وبذكر سوالف النِّـعم»[19]. وهــذا النوع من الصبر هو الإكسير الذي يقلـب ما يصيب المؤمن من شرٍّ إلى خير له في الدين والدنيا، فيُؤْجَر على مصابه، ويهون عليه بلاؤه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له»[20].

ويعــبِّر بعض أهل العلم عن هــذه الدرجــات بالأقـسام أو الأنواع، ولا مشاحَّة في الاصطلاح، فكلهم يهدفون إلى الربط بين الصبر ومتعلقاته، وهي في جملتها لا تخرج عن ثباتٍ على واجب، ومجانبة عن حرام، وتسليم لقضاء وقدر، وقد يحصل المرء من هذه الدرجـــات أو الأقســام أو الأنــواع ما يرشحه لمقام الإمامة في الدين، ولا يكون بالضرورة معصوماً من الخطأ أو الذنب؛ فقد يخطئ الإمام أو يذنب، فيتذكر ويتوب، ولا يعود خطؤه أو ذنبه على إمامته بالإبطال أو على أهليَّته لها بالزوال، قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْـحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: ٢٢].

وعلـيه؛ فإن من الغلوِّ في الفهم والتصور أن يعتـقد الإنسان أنه لا يصلح للقـيادة أو لا يتـأهل للإمـامـة إلا الكـاملون من الناس الذين لا يخـطئون في قول من أقوالهـم في الديـن أو الدنيا، ولا يصدر منهم ذنب مهما صغر وتاب منه صاحبه. وإذا نظرنا في سير من اشتهرت إمامتهم من المتقدمين أو من المتأخرين نرى أنهم لم يسلموا من الأخطاء في فتاويهم ومذاهبهم إن كانوا من العلماء، ولم ينجوا من الزلات في سياساتهم وحكوماتهم بين الناس إن كانوا من الأمراء، ولم يُؤْثَر عن أحد منهم أنه ادَّعى العصمة من الذنوب مطلقاً، بل إن بعضهم ممن كان له سوابق تاب منها وأقلع، حتى صار إماماً في الدين يُتَّبَع، وكلهم كان يلهج بدعاء عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} [الفرقان: ٤٧].

الوقفة الخامسة: العلاقة بين مفردات القاعدة:

هناك علاقة وطيدة وصلة وثيقة بين كلٍّ من الصبر واليقين من جهة، وبينهما وبين الإمامة الشرعية والقيادة الدينية من جهة أخرى.

العلاقة بين الصبر واليقين:

 يبيِّن ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه العلاقة في معرض تفسيره للآية الكريمة: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: ٠٦]، قال - رحمه الله -: «فأمرَه بأن يصبر، ولا يتشبَّه بالذين لا يقينَ عندهم، فإنهم لعدم صبرهم خفوا واستخفّوا قومهم، ولو حصل لهم اليقين الحق لصبروا وما خفوا ولا استخفّوا، فمن قلَّ يقينه قلَّ صبره، ومن قلَّ صبره خفَّ واستُخِفَّ، فالمؤمن الصابر رزين؛ لأنه ذو لبٍّ وعقل، ومن لا يقين له ولا صبر عنده خفيف طائش، يلعب به الأهواء والشهوات، كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف؛ والله المستعان»[21].

ولا مزيد في الحقيقة على هذا الكلام الوجيز والمفيد في بابه، والذي نستفيد منه أن العلاقة بين الصبر واليقين علاقة استلزام؛ لأن العلم التام بالشيء وما يجلبه للمرء من خير أو يدفعه عنه من شر؛ يستلزم قوة وصبراً في أداء ذلك الفــعل، وقلَّ مــثله فـيما يقتــضيه ذلك العلم من التــرك وما يترتب عنه من نتائج، فالمترشح لإمامة المتقين إذا كان من أهل اليقين بحقائق دين الإسلام من عقائد صحيحة وشعائر فاضلة وشرائع عادلة، وعلم بأن لا فلاح في الدنيا والآخرة إلا بالتمسك بأهدابها؛ لا بد أن يكون ذا رزانة وشخصية عاليــة لا تنقاد إلى شبهات البدع والضلالات، ولا تنساق وراء مخــتلف الشهوات. وانظر إلى حال الأنبياء - عليهم السلام - وكذلك ورثتهم العلماء من بعدهم لما كانوا أهل يقين بما أمر به الله من الإيمان والعمل الصالح، كيف عرفوا بطلان غيره وقبحه، ولم يلتفتوا إلى شبهات الكفار والمشركين وأهل البدع في معارضة الحق، كما لم يمنعهم من العمل بما علموا رغبة ولا رهبة، وما مظاهر الحَوْرِ بعد الكَوْرِ التي نرصدها في حياة الدارجين في سلك الإمامة من غير أهلها ممن يقصر في علم أو في عمل فيخلط علماً بجهل، أو يشوب سُنَّةً ببدعة، أو طاعة بمعصية؛ ليس ذلك إلا دليلاً قاطعاً على أهمية تحصيل الصبر واليقين وضرورتهما في بناء الشخصية القيادية المنشودة لنيابة صاحب الشرع في القيام بوظائفه المتنوعة.

 العلاقة بين الصبر واليقين وبين الإمامة في الدين:

أما هذه العلاقة فهي علاقة شرط بمشروطه، والشرط في اصطلاح الأصوليين هو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. وجُلُّ شروط الخلافة، وكذلك أكثر آداب العلماء وصفات الدعاة إلى الله - تعالى - عند التأمل؛ نجدها مندرجة تحت هذين الأصلين العظيمين: الصبر واليقين، وفوات بعضها منافٍ لكمال الإمامة في الدين، كما أن انعدام بعضها الآخر منافٍ لصحتها، ولا يوجب توفرها في كل شخص من المسلمين تبوُّؤه منزلة الإمامة في الدين لسبب أو لآخر.

الوقفة السادسة: أدلة القاعدة:

إن مجرد نسبة قاعدة أو رواية مذهب إلى زيد أو عمرو من العلماء، مهما بذل الإنسان في ذلك من جهد في البحث والتحقيق؛ لا يكفي لإكساب تلك القاعدة أو ذلك المذهب الأصالةَ الشرعية أو الصوابية المطلقة؛ إذ لا حجة في الشرع لغير كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما شهدا له بالحجية كالإجماع والقياس وغيرهما من الأدلة، ولهذا نسعى في هذه الوقفة جاهدين لذكر ما نراه صالحاً للاستدلال على صحة قاعدة الصبر واليقين، والله المستعان وعليه التكلان، فنقول وبالله التوفيق:

 دلت على قاعدة (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين) آياتٌ كثيرة من القرآن الكريم، وأحاديث صحيحة من السنة النبوية، كما أن معناها متَّفق مع مقصود الشارع الحكيم في أحكام الإمامة، وهديه في الدعوة والتربية، وأصول المدنية والعمران البشري.

أولاً: من الآيات القرآنية الدالة على القاعدة:

1- قوله - عز وجل -: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٤٢]، والآية تخبر بوضوح بأن الإمامة لم تحصل لهؤلاء الموصوفين بها إلا بعد صبرهم على طاعة الله وعزوفهم عن لذَّات الدنيا وشهواتها، و «كونهم أهل يقين بما دلَّتهم عليه الحجج الشرعية، وأهـل تصـديـق لما تبين لهم من الحق من التوحيد وجميع مسائل الإيمان»[22]؛ كما يقول الإمام الطبري؛ رحمه الله. ويمكن القول: إن هذه الآية نصٌّ على القاعدة؛ لما أخبر الله فيها من جعل أولئك النفر من بني إسرائيل أئمة، مع ذكر الأسباب الموجبة لبلوغهم تلك المنزلة وهي اجتماع اليقين في دين الله والصبر الذي لم يذكر في الآية متعلقاته؛ إمعاناً في التعميم ليشمل كل أنواع الصبر؛ من صبر على طاعة الله بامتثال أوامره، وصبر عن معصية الله باجتناب نواهيه، وصبر على قضاء الله وقدره؛ يمنع النفس عن التسخط ويمسك اللسان عن الشكوى، وينهى الجوارح عن التشويش، ويهدي القلب إلى الرضا، ويرشد العقل إلى البصيرة في التعامل مع الأقدار بصفة إيجابية.

2- وقوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْـخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.

 [الأنبياء: ٣٧]

وهذه الآية نزلت في الفئة المسلمة من آل إبراهيم - عليه السلام - التي تولَّت قيادتُها نشر الدعوة وتربية المؤمنين من بعده على أساس التوحيد الخالص والعمل الصالح.قال الإمام الطبري - رحمه الله -: «وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يقول - تعالى ذكره -: وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة يُؤتَمُّ بهم في الخير في طاعة الله في اتِّباع أمره ونهيه ويقتدى بهم ويُتَّبَعون عليه»[23].

 والهداية بأمر الله تقتضي كون الهادي عالماً بشرع الله موقناً بآياته، عاملاً بما علم وداعياً إليه وصابراً على الأذى فيه، وإلا سلك بنفسه وبمن تبعه سبيل الضالين العابدين الله على جهل، أو المغضوب عليهم المخالفين لأوامر الله[24].

3- قوله - تعالى -: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: ٥٤]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «فالأيدي: القوة في أمر الله، والأبصار: البصائر في دين الله؛ فبالبصائر يُدرَك الحق ويُعرَف، وبالقوة يُتَمَكَّن من تبليغه وتنفيذه»[25].

وأهل الصـــبر واليقين هم حَمَلَة الدعوات المهتدية في كل زمــان ومــكان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «ومن المستقر في أذهان المسلمين أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً ودعوة إلى الله ورسوله؛ فهؤلاء أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير؛ فزكت في نفسها، وزكى الناس بها، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله - تعالى - فيهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}» [26].

ثانياً: الأدلة من الأحاديث النبوية:

ويدخل تحتها كل حديث اشتمل على الأمر بتصحيح الإيمان أو تكميله بالنسبة لأئمة المسلمين، أو تضمَّن الحثَّ على الصبر والقوة في إقامة الدين ونصرته، وخاصة ما كان الخطاب فيه موجهاً بصراحة أو ضمناً إلى طائفة العلماء والأمراء، ومن جملة تلك الأحاديث:

1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها»[27]، والمعنى الإجمالي للحديث هو: عصمة الله - تعالى - لمعالم الإسلام من الاندراس الكلي والذهاب الأبدي، بما يقيِّضه - سبحانه - من أئمة الدين الذين يقومون بتجديده وإحياء معالمه بين فترة وأخرى، وقد أورد صاحب (عون المعبود) بعض أقوال العلماء في بيان معنى تجديد الدين فقال: «(من يجدد) مفعول (يبعث لها) أي: لهذه الأمة، (دينها) أي: يبين السنة من البدعة، ويكثر العلــم، وينصــر أهلـه، ويـكسر أهل البدعة ويذلهم، قالوا: ولا يكون إلا عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، قاله المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير، وقال العلقمي في شرحه معنى التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما»[28].

وكلها معانٍ متقاربة لا تخرج عن وظائف أئمة الدين من المجددين وغيرهم، وإن كان دور المجددين في القيام بها آكد وأبلغ، وذلك لظهور أعمالهم التجديدية بين الناس وتأثيرهم في أحداث زمانهم كما قال الإمام السيوطي في قصيدته المسمَّاة (التنبئة بمن يبعث الله على رأس كل مائة):

والشرط في ذلك أن تمضي المائة

وهـو على حـياته بين الفئـة

يشار بالعلم إلى مقامــــــه

وينــــشر الســـنَّة فـــي كـــلامــه[29]

وما يقوم به المجدِّد من إقامة دين الله لا يتأتَّى لغير عالم بالدين؛ أصوله وفروعه، صابر محتسب على ما يلقى في سبيل الله. وقد يتفاوت المجدِّدون في التحلِّي بصفتَيْ الصبر واليقين، فتبرز في بعضهم صفة اليقين وفروعه؛ كالمشتغلين بعلوم الشريعة من فطاحل المفسرين والفقهاء والمحدثين وغيرهم فيكون مجال تجديدهم في جانب العقائد والتصورات غالباً على غيره من الجوانب، كما تكون صفة الصبر وما يتفرع عنه أظهر عند آخرين منهم فيكرِّس كلٌّ جهودَه التجديدية في إصلاح ما اندرس من الشعائر وإحياء ما انطمس من السنن. والمجدد قد يكون من العلماء أو من الأمراء، واشتراط الصبر واليقين في هؤلاء من المتقرر في الشريعة الإسلامية.

2- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأَفْتوا بغير علم، فضَلُّوا وأضَلُّوا»[30]، ومفهوم الحديث يدل على خطورة اتخاذ الأئمة من غير أهل اليقين والصبر؛ لأنهم لا يهدون الناس إلى الصراط المستقيم؛ سواء كانوا مفتين كحال من ذكر وصفهم في الحديث، أو كانوا قضاة، أو دعاة إلى الله، فإنهم ما لم يصدروا عن علم وفقه في الدين فإنهم من أهل الضلال والإضلال والجهل والمخالفة لأوامر الله؛ لأن الإقدام على الفتوى أو القضاء ونحوهما بغير علم ناتج عن عدم الصبر على تحصيل الشروط الواجبة في المفتين والقضاة. وأما ضلالهم وإضلالهم فهو بسبب إفتائهم وقضائهم بأهوائهم وعقولهم المجردة.

3- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدولُه، ينفون عنه تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين»[31]، حيث بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن حماة الدين وحرَّاس العقيدة في كل جيل من أجيال الأمة الإسلامية المتعاقبة هم عدوله. والعدالة المستجمعة لشروطها وصف جامع لمعاني اليقين والصبر؛ إذ عرَّفها أهل الاصطلاح بتعريفات كلها يفيد الاستقامة على دين الله في الاعتقاد والقول والعمل، ومما قالوه في تعريف العدل: «العدل هو من عُرف بأداء فرائضه – الإسلام - ولزوم ما أمر به، وتوقَّى ما نهى عنه، وتجنَّب الفواحش المسقطة، وتحرَّى الحق والواجب في أفعاله ومعاملته، وتوقَّى في لفظه مما يثلم الدين والمروءة، فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه...»[32]. وهذه كلها من صفات أئمة الدين وقادة المؤمنين.

4- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لست أخاف على أمتي جـوعاً يقـتلهم ولا عدواً يجتاحهم، ولكني أخاف على أمتي أئمة مضلين؛ إن أطاعوهم فتنوهم وإن عصوهم قتلوهم»[33]، وفي الحديث بيان لخطورة تسلُّط الأئمة المضلِّين الآمرين بالبدع والفسق والفجور على رقاب الأمة، الذين يحكمونها بغير ما أنزل الله، ويسوسونها على غير منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا شك أن سبب ظهور مثل هذا الصنف من الأئمة هو غياب خصلتَيْ الصبر المانع من الظلم، واليقين العاصم من الجهل.

ومن تأمَّل في وصف الله - سبحانه وتعالى - الحكام بغير ما أنزل بالكفر في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤]، وبالفسق في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: ٧٤]، وبالظلم في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [المائدة: ٥٤]؛ أدرك حقيقة ذلك؛ لأن الفسق والظلم الذي دون الشرك مما يتنافى مع الصبر، كما أن الكفر لا يصدر من عالم بالله وأسمائه وصفاته عاملٍ بمقتضى ذلك العلم، قال - تعالى -: {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِـمِينَ} [البقرة: ٤٢١]، قال السعدي - رحمه الله -: «أي: لا ينال الإمامة في الدين مَنْ ظلم نفسه وضرَّها وحطَّ قدرها؛ لمنافاة الظلم لهذا المقام فإنه مقامٌ آلتُه الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة والشمائل السديدة والمحبة التامة والخشية والإنابة؛ فأين الظلم وهذا المقام؟ ودلَّ مفهوم الآية أن غير الظالم سينال مقام الإمامة ولكن مع إتيانه بأسبابها»[34].

 واعلم - أخـي القارئ الكـريـم! - أن منـزلـة أئـمة الدين في الأمة بمنزلة أرباب البيوت في أهليهم، وقد أوجب الله عليهم وقاية أهليهم من النار بما يأمرونهم به من الإيمان بالله وطاعته وترك معصيته ومخالفة أمره، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْـحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: ٦]، وهذا في حق عامة المسلمين حيث يجب على جميعهم وقاية أهليهم النار. وأما رؤوس الأمة وقادتها المهديُّون فهم يتصدَّرون لأداء فروض الكفايات، ووقاية جماعة المسلمين من النار بما يقومون به من حراسة عقائدهم من التحريف، وصيانة أعمالهم من البدع، وحماية ديارهم من الظلم والاحتلال. وإذا كان يشترط في تعليم الأهل علماً وصبراً بقدر تلك المسؤولية المحدودة؛ فكيف بمن عهد إليه نيابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمته، وفي الحديث: «كلُّكم راعٍ، وكلكم مَسؤولٌ عن رَعيَّتِهِ: الإِمامُ راعٍ وَمَسؤولٌ عن رَعيَّتهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهلهِ وَهوَ مَسؤولٌ عن رعيَّتهِ، وَالمرأَةُ راعيةٌ في بيتِ زَوجِها وَمَسؤولةٌ عن رَعيَّتِها، والخادمُ راعٍ في مالِ سيِّدهِ وَمَسؤولٌ عن رَعيَّتهِ»[35].

وكما أسلفنا؛ فإن كل حديث اشتمل على التنويه بدور أهل العلم والفقه في الدين، أو فيه ذكر لصفات الأئمة والحكام العدول، أو تعرَّض لأهمية الصبر والثبات على الحق بالنسبة لأئمة الدين من العلماء والأمراء؛ فهو دليل على قاعدة الصبر واليقين وشاهدٌ على صحتها.

 ثالثاً: كون القاعدة متفقة مع مقاصد الشريعة:

وأما المسلك الثالث من مسالك الاستدلال على القاعدة فهو كونها متفقة مع الغايات والعِلَل التي من أجلها شُرِّع كثير من الأحكام السلطانية، والآداب المرعيَّـة في حق الأئمة والعلماء والدعاة. يقول العلامة ابن خلدون - رحمه الله -: «مقصود الشارع في الناس هو تحصيل مصالح الدين والدنيا، في الحياة الأولى والآخرة، ولا يتم ذلك إلا بحمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء»[36].

ولهذا نجد جُلَّ ما يذكر في حق الخلفاء والعلماء بوظائفهم المتعددة؛ من شروط وآداب؛ من فروع اليقين والصبر، وإن شئت راجع أقوال الفقهاء في شروط الخليفة، والمفتي، والقاضي، والداعية إلى الله، أو المربِّي؛ ستجد جملة منها كبيرة لا تخرج عن هذين الأصلين العظيمين، وذلك مثل: (الإسلام، والعدالة، وبلوغ درجة الاجتهاد، والشجاعة)[37] وغيرها مما يؤدي نقصانه أو فواته إلى قدح في كمال الإمامة أو في صحتها.

ومناسبة اشتراط الصبر واليقين للخليفة والسلطان راجعة إلى كونه المسؤول عن إقامة الدين الذي هو عصمة أمر الأمة، وسياسة الدنيا التي فيها معاشهم، وحماية حوزتهم التي فيها مقامهم، وأما اشتراطهما في المفتي فلكونه المقصود للكشف عن حكم الله في النوازل واستنباط الأحكام في شرع الله، وكذلك القاضي الذي يفصل في الخصومات ويحكم في النزاعات، والداعية الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فجميعهم في منصب لا يقوم بواجبه فيه بغير الصبر واليقين.

رابعاً: استقراء سِيَر الأنبياء والعلماء والملوك والأمراء:

 إن استقراء تاريخ الدعوة الإسلامية وسِيَر الملوك والخلفاء منذ ابتداء فترة النبوة والرسالة إلى يومنا هذا؛ يفيد بأن كل من عهد الله إليه بمهمة الرسالة، أو فوَّضت إليه الأمة أمر القيادة؛ كان ممن توفر فيه اليقين والصبر، فلم يجعل الله قط الرسالة والنبوة في من ليس من أهل العلم واليقين، أو من يستغل الناس في تحقيق مآربه الذاتية وتحصيل منافعه الشخصية، قال - تعالى -: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّـمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: ٩٧].

والأنبياء والمرسلون أكمل الناس علماً ويقيناً لكونهم يتلقون الوحي من الله تعالى، كما أنهم أقوى الناس صبراً وثباتاً على دين الله، ولهذا اختارهم لرسالته، فبلَّغوا الرسالات وأدّوا الأمانات ونصحوا الأمم، قال - تعالى -: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: ٦٤١]، وقد ثبت في الحـديث النـبوي: «أن بنـي إسرائيـل كـانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي»[38]، قال ابن حجر - رحمه الله - في الفتح: «قوله: تسوسهم الأنبياء أي: أنهم كانوا إذا ظهـر فـيهم فساد بعـث الله لهـم نبـياً يقيـم لهـم أمـرهـم ويـزيــل مــا غيَّـروا مـن أحكـام التـوراة»[39]. وقـال النووي - رحمه الله -: «أي: يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه»[40].

وفي الحديث: «إشارة إلى أنه لا بد للرعية من قائم بأمورها يحملها على الطريقة الحسنة وينصف المظلوم من الظالم..»[41].

ومهمة سياسة الأمة، وكذلك تعليم الكتاب والحكمة للناس وتزكية نفوسهم بعد ختم النبوة برسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ تُعدُّ من وظائف أئمة المسلمين؛ العلماء والأمراء، يؤدُّونها امتثالاً لأمر الله ونيابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الدين.

خامساً: موافقة القاعدة لأصول المدنية والعمران البشري:

إن من أصول المدنية والعمران البشري أن أمر الأمم والشعوب مؤمنة كانت أو كافرة؛ لا يستقيم ولا ينضبط إلا بالإمامة والقيادة، وذلك مغروس في طبائع البشر وفِطَرهم، سواء منـهم مـن سكن فـي الحـواضر أو من قطن البوادي، أو من عاش في مجتمع كبير أو في مجتمع صغير.

قال الأفوه الأودي وهو شاعر جاهلي:

لا يُصلِحُ الناسَ فوضى لا سَرَاة لهم

ولا سَرَاةَ إذا جهّالهم سادوا

وقد جرى في عُرف البشرية أنه لا يُرشَّح ولا يترشَّح لمنصب القيادة والـمُلك إلا أهل البسطة في العلم والجسم، المهتدون بعلمهم إلى نصح الرعية وسياستهم على مقتضى المصلحة، والمتوصلون بالقوة والصبر إلى رعاية مصالحهم ودفع المضارِّ عنهم، فلم يُؤثَر قط في تاريخ الإنسانية أن أمة من الناس سوَّدوا المخاريق والضعفاء عليهم، ثم أفلحوا ودام لهم ملك وسُؤدد.

وإن قيل: فكيف يتوصل أهل الكفر والإلحاد إلى العلم واليقين، وقد عرفتهما بما سبق؟ قلت: إن العلم واليقين في كل إمامة بحسبها؛ فمن أمَّ قوماً مؤمنين قصدُهم طاعة الله ونشر دينه وإعلاء كلمته؛ كان اليقين والعلم الواجب في حقه ما كان متعلقاً بأصول الدين وفروعه، وطرق إقامة الدين ووسائل نشره. وأما من قاد أمة كافرة لا تؤمن بالله واليوم الآخر، فاليقين والعلم الواجب في حقه ما يتوصل به إلى جلب المصالح الدنيوية ودفع المفاسد الدنيوية فقط، وما قيل في اليقين يُقاس على ما يُقال في الصبر.

الوقفة السابعة: تصنيف القاعدة:

إن القواعد الشرعية تختلف بحسب الفنون والعلوم التي تصنف ضمنها؛ فهناك القواعد الفقهية، والقواعد الأصولية، والقواعد التربوية والدعوية، وغيرها من القواعد.

تُرى؛ فإلى أيِّ نوع تُصنَّف قاعدة الصبر واليقين؟

الذي أرى هو أن هذه القاعدة تُعدُّ من القواعد الجامعة التي يمكن تصنيفها ضمن القواعد الفقهية، أو تُعزَى إلى علم السلوك والتربية، وإن شئت قُلْ: إنها من قواعد فقه الدعوة والتغيير.

أما علاقتها بالفقه الإسلامي فهي من جهة دخولها في باب الأحكام السلطانية وخاصة فصل شروط الخليفة أو الإمام وواجباته؛ لأن كل ما يذكر هناك من الشروط والواجبات مندرج تحت الأصلين العظيمين؛ الصبر واليقين، وكذلك باب القضاء والفتوى؛ لا سيما ما يتعلق منه بشروط القاضي والمفتي، وغير ذلك من الولايات الشرعية؛ كالوزارة، وقيادة الجند.. ونحوها.

وأما صلة القاعدة بعلم السلوك والتربية؛ فواضحة وبيِّنة؛ لما عرف من اشتغال المربِّين بأصول الأخلاق الإسلامية التي على رأسها خُلق الصبر المانع من اقتراف الشهوات، واليقين العاصم من اتِّباع الشبهات، وكل من الشهوات والشبهات مرض من أمراض القلوب المؤثرة على تديُّن الإنسان واستقامته، قال - تعالى - عن مرض الشهوات: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفًا} [الأحزاب: ٢٣]، وقال عن مرض الشبهات: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: ٠١]. وغاية مقصد أطباء القلوب هو قطع مادة الفساد عن العقول والجوارح أو منعها، ولا أنفع في ذلك من دوائين هما: الصبر واليقين.

وكذلك تصنيف القاعدة في علم فقه الدعوة والتغيير يُعدُّ صواباً من جهات مختلفة، منها:

- كون العلماء والدعاة من جنس أئمة المسلمين الذين تجب طاعتهم والردُّ إليهم، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: ٩٥].

وولاة أمور المسلمين لا يهدون بأمر الله إلا إذا صبروا وكانوا بآيات الله يوقنون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٤٢].

- إن وظيفة أهل العلم والدعوة هي التربية والتعليم، بكل ما تحمل الكلمتين من معنى، قال - تعالى -: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّـمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: ٩٧]، ولا يقوم بالتربية والتعليم والدعوة إلى الله على الوجه الذي يـرضـي الله ورسوله مَنْ لـم يـتوفر فـيه الـيقين والمعـرفـة بما يدعو الناس إليه ويربِّيهم عليه، وكذلك الصبر والثبات على ما يلقاه في سبيل ذلك من الأذى.

- مسؤولية الأمراء والحكام في الدعوة والتغيير بما عهد الله إليهم من واجـب إقامة دين الله وسيـاسـة الدنـيـا بـه، ولا يقومون بهذه الوظائف الجليلة ما لم يتحلّوا بصفتَيْ الصبر واليقين.

إذن؛ فقاعدة (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين) قاعدة شرعية جليَّة في فقه الدعوة والسياسة الشرعية، ومصباح منير في طريق السالكين وبالأخص من ترشَّح منهم لقيادة المسلمين وإمامتهم.

وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

---------------------------------------------------------------------

[1] مجموع الفتاوى: 12 / 80 .

[2] المصدر السابق: 28 / 442.

[3] المصدر السابق: 8 / 83.

[4] انظر: مدارج السالكين: 2/154، دار الكتاب العربي، بيروت، 1393 هـ.

[5] انظر: لسان العرب: 12/25، تأليف: محمد بن مكرم بن منظور، ط. دار صادر، بيروت.

[6] الأحكام السلطانية، ص 5، ط. شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر - القاهرة، 1393 هـ .

[7] 1/8، ط. مطبعة حكومة الكويت، 1985م.

[8] الإسلام وأوضاعنا السياسية، ص 93 -94، تأليف: عبد القادر عودة، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401 هـ .

[9] أضواء البيان: 7/329، تأليف: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ط. دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1414هـ .

[10] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 1/30، تأليف: الإمام هبة الله بن حسن بن منصور اللالكائي، ط. دار طيبة للنشر والتوزيع، 1411 هـ .

[11] الصحاح، للجوهري، 6 /219، ط. دار العلم للملايين، بيروت.

[12] مدارج السالكين: 2 /398.

[13] المصدر السابق: 2 / 400.

[14] مدارج السالكين: 2 / 400.

[15] روضة الناظر وجنة المناظر، ص 26، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، 1401 هـ .

[16] مدارج السالكين: 2/ 155.

[17] المصدر السابق: 2/156.

[18] أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب: الرقاق، باب: التواضع.

[19] انظر: مدارج السالكين: 1 /162 - 164.

[20] أخرجه مسلم، كتاب: الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير، ح 2999.

[21] التبيان في أقسام القرآن: 1/55، ط. دار الفكر،  بيروت.

[22] انظر: تفسير الطبري: 21 / 131.

[23] تفسير الطبري: 17/49، ط. دار الفكر، بيروت، 1405هـ .

[24] تفسير القرطبي: 11/305، ط. دار الشهب، القاهرة، 1372هـ .

[25] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 4/92.

[26] مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/93.

[27] أخرجه أبو داود في كتاب: الملاحم. وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب: الفتن والملاحم. والطبراني في المعجم الأوسط.

[28] انظر: عون المعبود: 11/260، لمحمد شمس الحق العظيم أبادي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 هـ .

[29] أورد البيتين العظيم أبادي في (العون) عند ذكر أقوال العلماء في شرح الحديث.

[30] متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم، ح 100. ومسلم: كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان. وأخرجه غيرهما من الأئمة.

[31] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، برقم 599.

[32] انظر: الكفاية في علم الرواية: 1/70، تأليف: الخطيب البغدادي، ط. المكتبة العلمية، المدينة المنورة.

 

[33] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: 8/149، ط. مكتبة الزهراء، الموصل 1404هـ، وللحديث شاهد في سنن أبي داود رقم 4252، وسنن الترمذي رقم 3229، وصححه الألباني بلفظ: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلّين».

[34] تفسير السعدي: 1/65.

[35] أخرجه البخاري.

[36] مقدمة ابن خلدون، ص 15، ط. دار القلم، بيروت، 1984م.

[37] راجع في شروط الخليفة: مغني المحتاج: 4/130، للشربيني،  ط. دار إحياء التراث 1958م. وفي شروط الفتوى: المجموع شرح المهذب، للنووي، ط. دار الفكر، بيروت. وفي شروط القاضي: المغني: 11/381، لابن قدامة، ط. دار الكتاب العربي.

[38] مــتفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب: الأنبــياء، باب: ما ذكــر عن بنــي إسرائـيل، ح 3267. ومسلم في كتاب: الإمارة، باب: الإمام جُنة، ح 1842.

 [39] فتح الباري: 6 / 497، ط. دار المعرفة، بيروت، 1417هـ .

[40] انظر: المنهاج: 12 / 231، مصدر سابق.

[41] فتح الباري:  6 / 497.