الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ

بقلم / ناصر محمد أبو سعدة
بغياب الرشد وانحسار الوعي يبرز الغي ويتفشى الجهل، تطفوا الحزبية والعصبية للجماعة ويغيب الولاء والنصح للأمة، حتى أصبحنا فى مرحلة القصعة وهذا حالنا: عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : "بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن" فقال قائل : يارسول الله وما الوهن؟ قال : "حب الدنيا وكراهية الموت" سنن أبو داوود وصححه الألباني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه .. وبعد

بغياب الرشد وانحسار الوعي يبرز الغي ويتفشى الجهل، تطفوا الحزبية والعصبية للجماعة ويغيب الولاء والنصح للأمة، حتى أصبحنا فى مرحلة القصعة وهذا حالنا:
عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"
يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها
فقال قائل : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال
"
بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن
فقال قائل : يارسول الله وما الوهن؟ قال
"
حب الدنيا وكراهية الموت"
سنن أبو داوود وصححه الألباني

وهذه الحالة أدعى أن يتحد العاملين للإسلام وينسوا خلافاتهم، ويكون ولائهم للإسلام وحده والنصح والنصرة للأمة ليس لحزب ولا جماعة، ولن يكون هناك خروج من تلك الحالة إلا بتصحيح المفاهيم والعودة للنبع الصافى ( القرآن والسنة ) وبالجهاد فى سبيل الله بالمال والنفس والوقت والجهد وكل السعي.

ولا يوفق لذلك إلا من وفقه الله واجتباه وهداه، ولا يحرم من ذلك إلا المحروم.

أخرج مسلم من حديث ثوبان، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ "

وفرق كبير بين من يعيش فى صورة الإسلام ومن يعيش فى حقيقته، بين من همه الشكل والمظهر دون الحقيقة والجوهر، وبين من يهمه حزبه وجماعته ويداهن الباطل وبين من همه الإسلام والأمة وتحررها وتحكيم شرع الرحمن قولا وعملا.

فالأحداث العظيمة التى تمر بها الأمة الآن لها ما بعدها بإذن الله من الخروج من مرحلة القصعة، وما يحدث الآن من تمحيص للأفراد والجماعات والمفاهيم والأفكار هو للاصطفاء من جهة وللاستبدال من جهة أخرى، فمن بدل يبعد ويستبدل، ومن ثبت يهدى ويوفق ويصطفى .. ينهار المترددون، ويزداد يقين الموقنون، ويستبشر أهل البصائر، ولا يضيع هذه الأحداث أهل الهمة والسعى للقمة وطلب الشهادة.

 والحرب الشرسة الحالية على الإسلام بوضوحها السافر من دواعى إيقاظ الأمة من غفلتها وتنبيه كل ذى عقل ولب، لينحاز لأمته ويدافع عن دينه "لحمه ودمه".

فاختر لنفسك أي طريق تسلك وأي هدف تريد وأي ثمن تدفع.

دون تهور واندفاع ودون تمنى لقاء العدو أو استعجال المواجهة، إنما صبرا واستعدادا وإعدادا، وجهادا للنفس والشيطان والهوى والدنيا وعدو الدين.

قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:

" ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَلَكِنْ إذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْعَى فِيمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ فَيَبْخَلُ بِالْوَفَاءِ؛ وَكَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُعَاهِدُ اللَّهَ عُهُودًا عَلَى أُمُورٍ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ يُبْتَلَوْنَ بِنَقْضِ الْعُهُودِ. وَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اُبْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَثْبُتَ وَلَا يَتَّكِلَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْمُوقِنِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَاجِبَاتِ. وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ.

 " ( مجموع الفتاوى – 10/39 )

وكما أن الفقر فتنة فإن الغنى أيضا فتنة، وربما تكون أخطر من فتنة الفقر، كذلك قد تكون الهزيمة فتنة ويكون النصر فتنة، وتكون فتنة النصر أخطر من فتنة الهزيمة {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}  ( الأنبياء – 35).

ففى الابتلاء بالهزيمة باعث لمراجعة الأسباب والإسراع بالتوبة والتصحيح والتصويب والاعتراف بالأخطاء وتحمل النتائج وإعداد المستطاع من القوة، وفى الابتلاء بالنصر دافع للمسارعة بالحمد والشكر والبراءة من الحول والقوة، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله والثبات والدعاء والإحسان والمعروف، كى لا يفقد هذا النصر ويضيع.

يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:

" {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} . أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ لَمَّا انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ خِيَارِ الْأُمَّةِ " وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ حَتَّى خَلَصَ إلَيْهِ الْعَدُوُّ فَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ وَهَشَّمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَقُتِلَ وَجُرِحَ دُونَهُ طَائِفَةٌ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ لِذَبِّهِمْ عَنْهُ وَنَعَقَ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَزَلْزَلَ ذَلِكَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ حَتَّى انْهَزَمَ طَائِفَةٌ وَثَبَّتَ اللَّهُ آخَرِينَ حَتَّى ثَبَتُوا." ( مجموع الفتاوى – 28/412 ).

فكان ابتلاء رهيب وامتحان مزلزل، يجب ألا يغفل عنه المجاهد فى سبيل الله، مستحضرا الدرس جيدا، متفاديا الأخطاء، عازما على الثبات والرشد.

يقول سيد قطب رحمه الله:

"قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ- إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ؟ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}

لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة، وأصابهم القتل والهزيمة. أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير. قتل منهم سبعون صحابياً، وكسرت رباعية الرسول- صلى الله عليه وسلم- وشج وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: «أَنَّى هذا؟» وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟! والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض. يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور. فهم ليسوا بدعاً في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام. واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق. ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول.

والسنن التي يشير إليها السياق هنا، ويوجه أبصارهم إليها هي:

عاقبة المكذبين على مدار التاريخ. ومداولة الأيام بين الناس. والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين." (فى ظلال القرآن 1/478)

ومن رحمة الله عزوجل بعباده أن جعل فى الابتلاء بالفقر والغنى رحمة ونعمة .. وفى الابتلاء بالنصر والهزيمة أيضا رحمة ونعمة.

يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:

" كَمَا أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ رَحْمَةً وَنِعْمَةً وَهَزِيمَتُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ نِعْمَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ اللَّهَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ} . " ( مجموع الفتاوى – 28/432)

ويجب على المجاهد فى سبيل الله ألا ينحرف عن هدفه ولا تنقلب وسائله إلى غايات ولا ينسى دوره فى هداية البشرية.

يقول سيد قطب رحمه الله:

" قال تعالى: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..

لا تهنوا- من الوهن والضعف- ولا تحزنوا- لما أصابكم ولما فاتكم- وأنتم الأعلون.. عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى. فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى. فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق. ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون.. فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون. وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا. فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص" (فى ظلال القرآن 1/480)

والجهاد يحتاج لصبر شديد، صبر على النفس وأهوائها وشهواتها، صبر على المشقة والتعب والألم، صبر عند الهزيمة فلا يأس وضعف وخور، وصبر عند النصر فلا تطاول وانتقام وجور وظلم.

يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:

" وَقَدْ ذَكَرَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِهِ؛ وَمَدَحَهُ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ؛ وَذَلِكَ هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالسَّمَاحَةُ فِي طَاعَتِهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . وَالشَّجَاعَةُ لَيْسَتْ هِيَ قُوَّةُ الْبَدَنِ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْبَدَنِ ضَعِيفَ الْقَلْبِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ. فَإِنَّ الْقِتَالَ مَدَارُهُ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ وَصَنْعَتِهِ لِلْقِتَالِ؛ وَعَلَى قُوَّةِ الْقَلْبِ وَخِبْرَتِهِ بِهِ. وَالْمَحْمُودُ مِنْهُمَا مَا كَانَ بِعِلْمِ وَمَعْرِفَةٍ؛ دُونَ التَّهَوُّرِ الَّذِي لَا يُفَكِّرُ صَاحِبُهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ. حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَصْلُحُ. فَأَمَّا الْمَغْلُوبُ حِينَ غَضَبِهِ فَلَيْسَ بِشُجَاعِ وَلَا شَدِيدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جِمَاعَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَالصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عِنْدَ الْغَضَبِ؛ وَصَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَعْظَمَ مِنْ جُرْعَةِ حِلْمٍ عِنْدَ الْغَضَبِ؛ وَجُرْعَةِ صَبْرٍ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ. وَهَذَا هُوَ الشُّجَاعُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ. " ( مجموع الفتاوى – 28/158 )

وليس فقط الصبر على المشقة والألم ولكن الصبر بكف النفس عن الانتقام والإسراف فى القتل، وما قد تنتجه ساحات الوغى والقتال فى نفس المجاهد.

يقول الشيخ محمد عبد الله دراز فى كتابه القيم النبأ العظيم:

" الصبر حين البأس "178- 182":

لا تحسبنه هنا صبرًا على الجروح والقروح في الحرب، فذلك معنى سلبي استسلامي؛ ولا تحسبنه صبرًا في البطش والفتك بالأعداء. فذلك جهد عملي إيجابي حقًّا. ولكن مرده إلى قوة العضل والعصب. لا إلى قوة الخلق والأدب "ليس الشديد بالصرعة، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب".. هكذا سيختار الله لنا من مثل الصبر أمثلها، ومن موازينه أوزنها في معايير القيم، ذلك هو ضبط النفس حين البأس، كفًّا لها عن الاندفاع وراء باعثة الانتقام، وردعًا لها عن الإسراف في القتل. ووقوفًا بها عند حد التماثل والتكافؤ العادل "القصاص 178- 179": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ." ( النبأ العظيم – 260 )

وليعلم المجاهد أن من يطلب الموت توهب له الحياة، وأن النصر بيد الله لا بيد غيره حتى ولو كان المجاهدين فئة قليلة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} ، والحرب سجال .. نصر وهزيمة مرحلي، تقدم وتأخر، فما تكسبه اليوم قد تفقده غدا وما تفقده غدا تستعيده بعد غد، فلا تجزع ولا تيأس، واستعن بالله دوما وأكثر من ذكره على أى حال، حتى يأتى نصر الله، وهو بإذن الله قريب.

وقد حدث هذا فى الجهاد المبارك فى سوريا فإن المجاهدين حرروا مناطق ثم فقدوها ثم أنعم الله عليهم واستعادوها مرة أخرى، أسأل الله أن يمكن لهم ويدحر ويبيد أعدائهم.

وأسأل الله سبحانه وتعالى للمجاهدين أن يصلح ذات بينهم، وأن يؤلف بين قلوبهم، وألا يرتكبوا ما قد ارتكبه المجاهدين من قبلهم فى مناطق شتى من تنازع وفشل واختلاف وتناحر.

فالمجاهدين فى شأن والناس فى شأن آخر، لو عرفه المجاهد حق معرفته، وأعطى هذا المقام حقه لتغيرت كثيرا من الأحوال ولتحققت كثيرا من الآمال.

وليسعى أن يكون أحد رجلين: الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ لَا يَفْضُلُهُ إلَّا النَّبِيُّونَ بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ.

أو الآخر: وَرَجُلٌ فَرَقَّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَمَصْمَصَةٌ تَحْتَ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ إنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ. 

يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:

" وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ اُغْزُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ} الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ عتبة بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْقَتْلَى ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ عَدُوًّا قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ لَا يَفْضُلُهُ إلَّا النَّبِيُّونَ بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ وَرَجُلٌ فَرَقَّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَمَصْمَصَةٌ تَحْتَ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ إنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي النَّارِ إنَّ السَّيْفَ لَا يَمْحُو النِّفَاقَ} رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ " ( مجموع الفتاوى – 6/464).