الشريعة خير ورحمة وعدل وحكمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد
- الشريعة خير ورحمة وعدل وحكمة، والحاجة إليها أشد من الحاجة للنفس، ولا سبيل للسعادة فى الدنيا والآخرة إلا بها.
قال الإمام بن القيم رحمه الله: "حَاجَة النَّاس إِلَى الشَّرِيعَة ضَرُورِيَّة فَوق حَاجتهم إِلَى كل شَيْء وَلَا نِسْبَة لحاجتهم إِلَى علم الطِّبّ إِلَيْهَا إِلَّا ترى أَن أَكثر الْعَالم يعيشون بِغَيْر طَبِيب وَلَا يكون الطَّبِيب إِلَّا فِي بعض المدن الجامعة وَأما أهل البدو كلهم وَأهل الكفور كلهم وَعَامة بني آدم فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى طَبِيب وهم أصح أبدانا وَأقوى طبيعة مِمَّن هُوَ متقيد بالطبيب وَلَعَلَّ أعمارهم مُتَقَارِبَة وَقد فطر الله بني آدم على تنَاول مَا يَنْفَعهُمْ وَاجْتنَاب مَا يضرهم وَجعل لكل قوم عَادَة وَعرفا فِي اسْتِخْرَاج مَا يهجم عَلَيْهِم من الأدواء حَتَّى أَن كثيرا من أصُول الطِّبّ إِنَّمَا أخذت عَن عوائد النَّاس وعرفهم وتجاربهم وَأما الشَّرِيعَة فمبناها على تَعْرِيف مواقع رضى الله وَسخطه فِي حركات الْعباد الاختيارية فمبناها على الْوَحْي الْمَحْض وَالْحَاجة إليها أشد من الحاجة إِلَى التنفس فضلا عَن الطَّعَام وَالشرَاب لِأَن غَايَة مَا يقدر فِي عدم التنفس وَالطَّعَام وَالشرَاب موت الْبدن وتعطل الرّوح عَنهُ وَأما مَا يقدر عِنْد عدم الشَّرِيعَة ففساد الرّوح وَالْقلب جملَة وهلاك الْأَبدَان وشتان بَين هَذَا وهلاك الْبدن بِالْمَوْتِ فَلَيْسَ النَّاس قطّ إِلَى شَيْء أحْوج مِنْهُم إِلَى معرفَة مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَالْقِيَام بِهِ والدعوة إِلَيْهِ وَالصَّبْر عَلَيْهِ وَجِهَاد من خرج عَنهُ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ وَلَيْسَ للْعَالم صَلَاح بِدُونِ ذَلِك الْبَتَّةَ وَلَا سَبِيل إِلَى الْوُصُول إِلَى السَّعَادَة والفوز الْأَكْبَر إِلَّا بالعبور على هَذَا الْجِسْر" ( مفتاح دار السعادة – 2/2).
- والشريعة وضعت لمصالح العباد وهى كاملة ولا حاجة معها إلى غيرها البتة فى سياسة العباد.
قال رحمه الله:
" وَمَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَاطِّلَاعٌ عَلَى كَمَالَاتِهَا وَتَضَمُّنِهَا لِغَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَجِيئِهَا بِغَايَةِ الْعَدْلِ، الَّذِي يَسَعُ الْخَلَائِقَ، وَأَنَّهُ لَا عَدْلَ فَوْقَ عَدْلِهَا، وَلَا مَصْلَحَةَ فَوْقَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَصَالِحِ: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ السِّيَاسَةَ الْعَادِلَةَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَفَرْعٌ مِنْ فُرُوعِهَا، وَأَنَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَقَاصِدِهَا وَوَضْعِهَا وَحَسُنَ فَهْمُهُ فِيهَا: لَمْ يَحْتَجْ مَعَهَا إلَى سِيَاسَةِ غَيْرِهَا أَلْبَتَّةَ." ( الطرق الحكمية - 4).
- ورغم كمال الشريعة وأنها جامعة لمصالح العباد وخير الدنيا والآخرة فإن من الناس من يظن أن الشريعة لا تفى بمطلبات الحياة الحديثة والتطور الكبير الحادث، وهذا جهل وظلم، ومن ظن أنه يسعه الخروج عليها واستبدالها بغيرها وقع فى الكفر والضلال.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:
" وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعَةٌ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ مِنْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ وَمَا وَافَقَهَا مِنْهَا فَهُوَ حَقٌّ؛ لَكِنْ قَدْ يُغَيَّرُ أَيْضًا لَفْظُ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ فَالْمُلُوكُ وَالْعَامَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ وَالشَّرِيعَةَ اسْمٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَضَاءَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَإِلَّا فَالشَّرِيعَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ وِلَايَةٍ وَعَمَلٍ فِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا هِيَ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ. وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوِلَايَاتِ وَالْعَطِيَّاتِ. ثُمَّ هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: شَرْعٌ مُنَزَّلٌ وَهُوَ: مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَشَرْعٌ مُتَأَوَّلٌ وَهُوَ: مَا سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَشَرْعٌ مُبَدَّلٌ وَهُوَ: مَا كَانَ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُبْطِلُونَ بِظَاهِرٍ مِنْ الشَّرْعِ؛ أَوْ الْبِدَعِ؛ أَوْ الضَّلَالِ الَّذِي يُضِيفُهُ الضَّالُّونَ إلَى الشَّرْعِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَبِمَا ذَكَرْته فِي مُسَمَّى الشَّرِيعَةِ وَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ بَلْ كُلُّ مَا يَصْلُحُ لَهُ فَهُوَ فِي الشَّرْعِ مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنَّا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَقَدْ أَوْجَبَ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ فِي آيٍ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَحَرَّمَ مَعْصِيَتَهُ وَمَعْصِيَةَ رَسُولِهِ وَوَعَدَ بِرِضْوَانِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَجَنَّتِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأَوْعَدَ بِضِدِّ ذَلِكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ فَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ عَالِمٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ عَابِدٍ أَوْ مُعَامِلٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَحَقِيقَةُ الشَّرِيعَةِ: اتِّبَاعُ الرُّسُلِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ طَاعَتِهِمْ كَمَا أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ الرُّسُلِ وَطَاعَةُ الرُّسُلِ هِيَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِالْقِتَالِ عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَالطَّاعَةُ لَهُ دِينٌ لَهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَا اللَّهَ وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي} وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ مَوَاضِعُ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيهَا وَعَلَيْهِمْ هُمْ أَيْضًا أَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِيمَا يَأْمُرُونَ. فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الرُّعَاةِ وَالرَّعِيَّةِ وَالرُّءُوسِ وَالْمَرْءُوسِينَ أَنْ يُطِيعَ كُلٌّ مِنْهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي حَالِهِ وَيَلْتَزِمُ شَرِيعَةَ اللَّهِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَفْصِيلُهَا يَطُولُ غَلِطَ فِيهَا صِنْفَانِ مِنْ النَّاسِ. صِنْفٌ سَوَّغُوا لِنُفُوسِهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِظَنِّهِمْ قُصُورَ الشَّرِيعَةِ عَنْ تَمَامِ مَصَالِحِهِمْ جَهْلًا مِنْهُمْ؛ أَوْ جَهْلًا وَهَوًى؛ أَوْ هَوًى مَحْضًا. وَصِنْفٌ قَصَّرُوا فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الشَّرِيعَةِ فَضَيَّقُوهَا حَتَّى تَوَهَّمُوا هُمْ وَالنَّاسُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا وَأَصْلُ ذَلِكَ الْجَهْلِ بِمُسَمَّى الشَّرِيعَةِ وَمَعْرِفَةِ قَدْرِهَا وَسِعَتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ." ( مجموع الفتاوى – 19/310 ).
- ويجب الانتباه التام للفرق بين الشرع المنزل والشرع المرول والشرع المبدل، كى نكون على بصيرة مما نحن عليه ولا نقع فى الخطأ والضلال.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: "وَأَيْضًا فَلَفْظُ " الشَّرْعِ " فِي هَذَا الزَّمَانِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: شَرْعٌ مُنَزَّلٌ وَشَرْعٌ مُتَأَوَّلٌ وَشَرْعٌ مُبَدَّلٌ. " فَالْمُنَزَّلُ " الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهَذَا الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَ " الْمُتَأَوَّلُ " مَوَارِدُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فَاتِّبَاعُ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ جَائِزٌ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ حُجَّتَهُ هِيَ الْقَوِيَّةُ أَوْ لِمَنْ سَاغَ لَهُ تَقْلِيدُهُ وَلَا يَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ إذَا رَأَى بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمَشَايِخِ الصَّالِحِينَ يَرَى أَنَّهُ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ قَدْ خَالَفَ الشَّرْعَ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا يَظُنُّهُ هُوَ الشَّرْعُ وَقَدْ يَكُونُ ظَنُّهُ خَطَأً فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ الْآخَرُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا. وَأَمَّا " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ ": فَمِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ وَالتَّقْلِيدِ الْمُحَرَّمِ فَهَذَا يَحْرُمُ أَيْضًا. وَهَذَا مِنْ مَثَارِ النِّزَاعِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ قَدْ يُوجِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ اتِّبَاعَ مَذْهَبِهِ الْمُعَيَّنِ وَتَقْلِيدَ مَتْبُوعِهِ؛ وَالْتِزَامَ حُكْمِ حَاكِمِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَرَى خُرُوجَهُ عَنْ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ وَظُلْمٌ؛ بَلْ دَعْوَى ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ. كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي شَيْخِهِ وَمَتْبُوعِهِ وَهُوَ فِي هَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ. وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُسَوِّغُ الْخُرُوجَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لِمَا يَظُنُّهُ مُعَارِضًا لَهُمَا إمَّا لِمَا يُسَمِّيه هَذَا ذَوْقًا وَوَجْدًا وَمُكَاشَفَاتٍ وَمُخَاطَبَاتٍ وَإِمَّا لِمَا يُسَمِّيه هَذَا قِيَاسًا وَرَأْيًا وَعَقْلِيَّاتٍ وَقَوَاطِعَ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَاعَتُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَلَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَكُلُّ مَا عَارَضَهُ فَهُوَ خَطَأٌ وَضَلَالٌ." ( مجموع الفتاوى – 11/431 ).
- وهذا كلام بديع لإبن القيم رحمه الله يوضح الفرق بين الحكم المنزل والمؤول والمبدل وحكم اتباع كل حكم.
" وَالْفرق بَين الحكم الْمنزل الْوَاجِب الِاتِّبَاع وَالْحكم المؤول الَّذِي غَايَته أن يكون جَائِز الِاتِّبَاع أَن الحكم الْمنزل هُوَ الَّذِي أنزلهُ الله على رَسُوله وَحكم بِهِ بَين عباده وَهُوَ حكمه الَّذِي لَا حكم لَهُ سواهُ وَأما الحكم المؤول فَهُوَ أَقْوَال الْمُجْتَهدين الْمُخْتَلفَة الَّتِي لَا يجب اتباعها وَلَا يكفر وَلَا يفسق من خالفها فَإِن أَصْحَابهَا لم يَقُولُوا هَذَا حكم الله وَرَسُوله بل قَالُوا اجتهدنا برأينا فَمن شَاءَ قبله وَمن شَاءَ لم يقبله وَلم يلزموا بِهِ الْأمة بل قَالَ أَبُو حنيفَة هَذَا رَأْي فَمن جَاءَنِي بِخَير مِنْهُ قبلناه وَلَو كَانَ هُوَ عين حكم الله لما سَاغَ لأبى يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا مُخَالفَته فِيهِ وَكَذَلِكَ مَالك استشاره الرشيد أَن يحمل النَّاس على مَا فِي الْمُوَطَّأ فَمَنعه من ذَلِك وَقَالَ قد تفرق أَصْحَاب رَسُول الله فِي الْبِلَاد وَصَارَ عِنْد كل قوم علم غير مَا عِنْد الآخرين وَهَذَا الشَّافِعِي ينْهَى أَصْحَابه عَن تَقْلِيده ويوصيهم بترك قَوْله إِذا جَاءَ الحَدِيث بِخِلَافِهِ وَهَذَا الإِمَام أَحْمد يُنكر على من كتب فَتَاوَاهُ ودونها وَيَقُول لَا تقلدني وَلَا تقلد فلَانا وَلَا فلَانا وَخذ من حَيْثُ أخذُوا وَلَو علمُوا رَضِي الله عَنْهُم أَن أَقْوَالهم يجب اتباعها لحرموا على أَصْحَابهم مخالفتهم وَلما سَاغَ لأصحابهم أَن يفتوا بخلافهم فِي شَيْء وَلما كَانَ أحدهم يَقُول القَوْل ثمَّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ فيروي عَنهُ فِي الْمَسْأَلَة الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَة وَأكْثر من ذَلِك فَالرَّأْي وَالِاجْتِهَاد أحسن أَحْوَاله أَن يسوغ اتِّبَاعه وَالْحكم الْمنزل لَا يحل لمُسلم أَن يُخَالِفهُ وَلَا يخرج عَنهُ وَأما الحكم الْمُبدل وَهُوَ الحكم بِغَيْر مَا أنزل الله فَلَا يحل تنفيذه وَلَا الْعَمَل بِهِ وَلَا يسوغ اتِّبَاعه وَصَاحبه بَين الْكفْر والفسوق وَالظُّلم ". ( الروح – 267 )
- وكثير من الدعاة من يحكم فى مسألة ويقول هذا حكم الله، وينسبه للشرع رغم أنه اجتهاد منه قد يكون فيه مخطىء فيفتح باب شر وفساد كبير، فيظن الناس أن الشريعة أتت بهذا القول المرجوح فيضعف تعظيم الشريعة فى قلوبهم.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:
" وَنِسْبَةُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إلَى الشَّرْعِ تُوجِبُ سُوءَ ظَنِّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي الشَّرْعِ وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ وَالْقَدْحَ فِي أَصْحَابِهِ. فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ قَوْلًا بِرَأْيِهِ وَخَالَفَهُ فِيهِ آخَرُونَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَرْعٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِ وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنَّ مَنْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ يَزِيدُ ذَلِكَ ظُلْمًا بِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ وَيَتَّفِقُ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ ظُلْمٍ وَشَرٍّ يَزِيدُونَ الشَّرَّ شَرًّا وَيَنْسُبُونَ هَذَا الظُّلْمَ كُلَّهُ إلَى شَرْعِ مَنْ نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ الظُّلْمِ وَبَعَثَهُ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَجَعَلَ الْعَدْلَ الْمَحْضَ الَّذِي لَا ظُلْمَ فِيهِ هُوَ شَرْعُهُ." ( مجموع الفتاوى – 30/355 ).
- بل- واختلاط الشرع المنزل والمؤول والمبدل طريق تيه وضلال، ومعرفة الفروق بينهم طريق الحق والهداية والرشاد.
- قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:
" وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالشَّرْعِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا وَقَدْ يَكُونُ عَادِلًا وَقَدْ يَكُونُ صَوَابًا وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً وَقَدْ يُرَادُ بِالشَّرْعِ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَقْوَالُهُمْ يُحْتَجُّ لَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِذَا قَلَّدَ غَيْرَهُ حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا أَيْ لَيْسَ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمْ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَحْرُمُ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمْ كَمَا يَحْرُمُ اتِّبَاعُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَمَّا إنْ أَضَافَ أَحَدٌ إلَى الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنْ أَحَادِيثَ مُفْتَرَاةٍ أَوْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ بِخِلَافِ مُرَادِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مِنْ نَوْعِ التَّبْدِيلِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُؤَوَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُبَدَّلِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ مَا يُكْتَفَى فِيهَا بِذَوْقِ صَاحِبِهَا وَوَجْدِهِ." ( مجموع الفتاوى – 11/265 ).
- الفساد والهلاك والضلال فى عدم فهم الشريعة وخلطها بغيرها.
قال الإمام بن القيم رحمه الله:
" وَجَعَلُوا الشَّرِيعَةَ قَاصِرَةً لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مُحْتَاجَةً إلَى غَيْرِهَا، وَسَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ طُرُقًا صَحِيحَةً مِنْ طُرُقِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالتَّنْفِيذِ لَهُ، وَعَطَّلُوهَا، مَعَ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ غَيْرِهِمْ قَطْعًا أَنَّهَا حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، ظَنًّا مِنْهُمْ مُنَافَاتِهَا لِقَوَاعِد الشَّرْعِ.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهَا لَمْ تُنَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ نَافَتْ مَا فَهِمُوهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَاَلَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ: نَوْعُ تَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَتَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ، وَتَنْزِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَمَّا رَأَى وُلَاةُ الْأُمُورِ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّاسَ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَمْرُهُمْ إلَّا بِأَمْرٍ وَرَاءَ مَا فَهِمَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشَّرِيعَةِ، أَحْدَثُوا مِنْ أَوْضَاعِ سِيَاسَاتِهِمْ شَرًّا طَوِيلًا، وَفَسَادًا عَرِيضًا فَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَتَعَذَّرَ اسْتِدْرَاكُهُ، وَعَزَّ عَلَى الْعَالِمِينَ بِحَقَائِق الشَّرْعِ تَخْلِيصُ النُّفُوسِ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتِنْقَاذُهَا مِنْ تِلْكَ الْمَهَالِكِ." ( الطرق الحكمية - 13).
والشريعة واجبة التطبيق والخضوع لأحكامها، ورفض الخضوع لأحكامها واستبدالها بغيرها ردة وكفر وضلال وهلاك، ومن ظن قصورها فبجهل منه وظلم، ولا يعرف حقها وخيرها إلا من لامس نورها قلبه.
اللهم مكن لدينك، ولشريعتك أن تحكم وتسود.
- قرأت 670 مرة