لست منهم يا أحرار الشام !!
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ..
يرى البعض أن عزة الإسلام والمسلمين ووجوب عداوة الكافرين يتنافى مع التوجه إليهم بخطاب سياسي أو الالتقاء بهم والجلوس معهم ومطالبتهم بالإنصاف وتصحيح رؤيتهم عن المسلمين ببيان الحقائق لهم وطرح الدلائل بين أيديهم، بل يعده البعض من الموالاة ويصف أصحابه بالعمالة و"الصحونة"، ولا شك أن إطلاق القول بذلك غير صحيح، بل هو من الغلو والجهل، وأن الأمر يختلف من حال إلى حال، بحسب ما يحيط الحدث من تداعيات..
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل الرسل، وبعث السفراء إلى الكفار في ربوع الأرض ليبينوا حقيقة دعوته وما يريد منهم، وخاطبهم بما يليق بمنازلهم عند أقوامهم، وجلس معهم في الحديبية وتفاوض، وعاهد يهود المدينة، وصالح قبائل الساحل، وتحالف مع خزاعة، واستعان بسلاح صفوان، وعزم أن يعطي لغطفان نصف تمر المدينة ليردها عن قتاله ...
وكل هذه الصور تؤكد على أن إعلان الحرب على الجميع في وقت واحد ليس ضرورة شرعية، أو واقعية كما يقع من بعض السفهاء!
كما أن هذه الصور وغيرها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الكفار تمثل أصلًا متينًا في السياسة الشرعية في فقه تحييد الأعداء وترك استعدائهم مراعاة لحال المسلمين من الضعف والقوة..
وما قام به مسؤول العلاقات الخارجية لحركة "أحرار الشام" لبيب النحاس، في خطابَيْه إلى أمريكا والغرب، هو من هذا القبيل، وينطلق من هذا الأصل، فالخطاب في مجمله لا يخرج عن المباح في أبواب السياسة الشرعية، ولا يخالف مقتضى الأدلة..
وقد اجتهد أصحابه في أن يخرجوه بلغة عصرية يفهمها الغرب ويتفاعل معها، إلا أن الخطاب لما كان غير معبر عن المجموع الذي يمكن أن يتولى مقاليدَ الأمور فيما بعد كان ضعيفًا مهترئًا، ليس له ذاك التأثير!
فماذا يعني أن يتوجه فصيل من بين عشرات الفصائل بخطاب منفرد إلى الغرب يُعرِّف فيه عن نفسه ويضرب بها المثل في الاعتدال؟
ماذا يهم الغرب في ذلك؟
وماذا لو أعلن الغرب أو أمريكا – بخبث - استعدادهما للتجاوب مع هذا الخطاب وقالوا: نشهد باعتدالكم ونحن على استعداد أن نتعاون معكم للقضاء على المتطرفين- بحسب زعمهم؟
ماذا لو أعلنوا دعمهم للحركة وأثنوا عليها ودخلوا معهم في حلف ضد المتطرفين؟!
لقد سالت دماء "لواء التوحيد" أنهارًا، فقط. لأن مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما ( جوشوا لانديس) وصفه بالاعتدال وأشاد به من بين الفصائل، وسماه تنظيم الدولة "لواء الشرك" واستحله لأجل ذلك، وكان كفره من المتحتمات الواجبات لديهم .. فهل نزيد من غلو تنظيم الدولة؟!!
وهل سيقبل الغرب وأمريكا تفسير السوريين للاعتدال، يدخل فيه جبهة النصرة، وأبو خالد السوري مبعوث الظواهري لأحرار الشام؟!
إن المشهد يعتريه شيء من التناقض!!
فالغرب ليس بهذه السذاجة، وهو يعرف حقائق تلك التكتلات، ولديه مراكز أبحاث تعمل ليل نهار على تلك الجماعات، وما تتبنّاه من عقائد وأفكار وأيديولوجيا، وترى بأم أعينها تخندق الأحرار مع النصرة في جل المعارك التي تخوضها ضد النظام.
وهل يظن إخواننا في أحرار الشام أن الغرب وأمريكا قد نسي كلام أبي عبد الله الحموي -رحمه الله- قائد أحرار الشام الذي صرح فيه أنه لن يسمح بالتدخل الأجنبي وأنه سيعامله معاملة المحتل، حيث قال: "إن كل قوة غازية تطأ الأرض السورية تحت أي ذريعة سواء لمناصرة النظام أو بزعم إيقاف عدوانه ستعامل كقوة احتلال"..؟
وإذا ذكرنا حالة الضعف والقوة، فالبعض يظن أن في حال الاستضعاف يجوز كل شيء؛ وهذا خطأ فيه الكثير..
فبعض المبادرات في حال ضعف المسلمين لا سيما إذا انفردت بها جماعة دون غيرها، تُحمل وتُفسر على أنها استجداء وتذلل وطلب رضا واستعداد لتقديم خدمات، وهذه يستغلها العدو لشق الصف والوقيعة بين هذه الجماعة والآخرين، بخلاف حال القوة أو الندية أو التأثير، يُفسر التوجه على وجهه ..
وقد لقي هذان الخطابان سيلًا من النقد، حتى من شرعيي الأحرار أنفسهم، وليس الإشكال في الانتقاد بحد ذاته، ولكن في طريقة الانتقاد، فبعض الانتقادات ألقت بكل ثقلها على مفردات الخطاب وحملت عليها حملًا شديدًا، ولم تلتفت إلى فحواه وما تضمنه من روح المبادرة والتنوع في معالجة الحدث، وكم نحن بحاجة إلى واجهة سياسية تعبر عنّا في المحافل والمؤتمرات الدولية وتنقل للعالم الصورة الحقيقية لجهادنا وقضايانا العادلة، من خلال مناورات سياسية محكمة، تخذّل عن الثوار والمجاهدين وتدفع عنهم العدوان قدر الإمكان، وفي نفس الوقت تسعى في رفع الصورة المشوهة التي رسمها الغلاة عن الجهاد والمجاهدين وترسخت في أذهانهم.
فالتركيز على مفردات الخطاب دون اعتبار فحواه خلل وبُعد عن الإنصاف. وتناول هذه المفردات في سياق منعزل عما هو معروف من حال "أحرار الشام " وثوابته وسبقه وصدق قادته خلل آخر؛ والنبي صلى الله عليه وسلم لما شكا له أبو بكر رضي الله عنه أن الإزار يسقط ويتدلى من أحد شقيه في حديث "من جرّ إزاره خيلاء" قال له: "إنك لست منهم " فرده إلى المعهود عنه، وما يعلمه من حاله ..
فلنقل أولًا: "لست منهم يا أحرار الشام"، ولنحمل الكلام على أحسن المحامل، ولنعذرهم في اجتهادهم وإن أخطؤوا، ثم نبين بعد ذلك ما لنا من مآخذ ومحذورات برفق ولين..
ولما خرجت بعض الانتقادات بصورة متشنجة، أو شديدة كانت مادة دسمة للمغرضين والغلاة للطعن في إخوانهم واتهامهم بالعمالة و"الصحونة"، ومادة أخرى للمرجفين للطعن في المشايخ والتهويل من نتائج نقدهم.
وإذا تمخض الانتقاد عن الطعن والتكفير والاتهام بالعمالة تحت مسمى إنكار المنكر فإن هذا أعظم منكرًا مما جاء في الخطاب، والمفسدة المترتبة عليه أكبر، ولو توجه الناقدون برفق ولين وهمسوا في آذان إخوانهم بقلب الناصح المشفق الحريص على سلامة إخوانه، بأن هذا الخطاب عليه ملاحظات يجب مراعاتها، لكان ذلك أرفق بهم وأدعى لقبول النصيحة منهم، فاللهم، اجمع بين قلوب المجاهدين ووحِّد صفهم واسلُلْ سخيمة صدورهم ..
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- قرأت 1477 مرة