المعاونةُ لا تستلزم الموالاة..

الحمد لله..أما بعد:
فإنَّ مظاهرةَ المشركين مِنْ القضايا الشائكة التي تناولتها أقلامٌ مختلفةُ المشاربِ، متنوعةُ المذاهب، وقد تردَّدت أصداؤها في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحدَّث عنها كثيرٌ ممن ينتسب إلى العلم الشرعي ممن لا علم له بأصول أهل السنة، ولا بأصول أهل البدع من المرجئة والوعيدية، فحصل منهم خلطٌ في المسائل، وحيفٌ في الدلائل، ورميٌ للأحكام صُبرةً دون مكيال أو ميزان، في أعظم المسائل المتعلقة بالكفر والإيمان!
وقد نَزَعَ كثيرٌ ممن تكلَّم في هذه المسائل-غلواً أو جفاءً- من جِمَام المتأخرين، وترتَّبت مقدمات دلائلهم في نفوسهم، وأُشْرِبوا حبها في قلوبهم؛ فلم يحفِلوا بكلام السلف الأولين، ولم تنشرح له قلوبهم، بل تشمئز منه حين يقرع أسماعهم، كالمريض الذي يستنكر طعم الماء الزلال، ويتَّهِمون الحافلين بعلومهم، والمقتفين لآثارهم، بالإرجاء تارة، أو بالغلو تارات، فلم يأخذوا من الحقائق غير أسمائها، ولا من الدلائل غير رسومها؛ ينظرون إلى النتائج مُشِيْحِين أبصارَهم عن المقدمات، وصارفين قلوبَهم عن الدلائل البينات، فمبلغُ علمِهم تصنيف الناس بجهالة، فزادوا ضِغثاً على إبَّالة، فجعلوا المجتمع أوزاعاً، ونفخوا الفتنة أوزاغاً، فليس كل من كفَّر معيناً برئ من الإرجاء، ولا كل من لم يكفِّر معيناً برئ من الغلو؛ فالمرجئة لا يقتصرون على التكفير بالتكذيب المجرد، بل يتوسعون في لوازمه، فهذا الباقلاني-وهو أقرب إلى الجهمية في الإيمان-بعد أن قرَّر أن الكفر لا يكون إلا بالجهل بالله أو التكذيب له، قال في تمهيد الأوائل( 394):( وإن جاز أن يسمى أحيانا ما جُعِل عَلَمَاً على الكفر كفرا نحو عبادة الأفلاك، والنيران، واستحلال المحرمات، وقتل الأنبياء، وما جرى مجرى ذلك مما ورد به التوقيف، وصح الإجماع على أنه لا يقع إلا من كافر بالله مكذب له وجاحد له).
ومعلومٌ أن عبادة الأفلاك لا تستلزم الجهل بالله أعني:لا تستلزم عدم العلم به جملة، وقتل الأنبياء لا يستلزم التكذيب، لكنهم يتوسعون في لوازم التكذيب مما ورد به النقل والإجماع، وما جرى مجراه!
ويقول القرافي-وهو من المرجئة واضعاً معياراً لأدنى رتب الكفريات- في الفروق(1/ 124):(فعلى الفقيه أن يستقرئ كتب الفقهاء في المسائل التي يكفر بها المتفق عليها والمختلف فيها فإذا كمل استقراؤه نظر إلى أقربها إلى عدم التكفير بالنظر السديد إن كان من أهل النظر في هذه المسائل فإنه ليس كل الفقهاء له أهلية النظر في مسائل التكفير، فإذا صح ذلك اعتقد حينئذ أن تلك الرتبة أدنى رتبة التكفير).
فنلاحظ أنه يرجع هذه المسائل إلى استقراء كلام الفقهاء، ثم يقيس عليها، وهو من جنس كلام الباقلاني، ومما يوضح توسعهم في اللوازم هو أنه لانزاع في أن إبليس لم يكن جاهلاً بالله، ولا صدر منه تكذيبٌ صريح، وهو كافر باتفاق المسلمين، قال ابن عطية في تفسيره(1/ 126):(ولا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره)، ومن قال إنه سُلِب المعرفة، أو كان كافراً قبل ذلك، فكلام ساقط لاحاجة للاشتغال به، وإنما توسع طائفة منهم في لوازم التكذيب، فقال القرافي في الفروق(1/ 124):(إنما كفر إبليس بنسبة الله تعالى إلى الجور وأنه أمر بالسجود لمن هو أولى أن يسجد له وأن ذلك ليس عدلا لقوله:"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" فهذا منه إشارة إلى التجوير والتسفيه ومن نسب الله تعالى إلى ذلك فلا شك في كفره فهذه الجراءة على الله تعالى هي سبب كفره).
فنلاحظ أن التسفيه والجراءة على الله تعالى لا تستلزم التكذيب في الحقيقة، ولا تضاد التصديق الذي هو مدار الإيمان عندهم، لكنهم يتوسعون في ذلك، فيجعلون المحبة والتعظيم من لوازم التصديق، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى(6/ 518):(ولهذا كان عامة أئمة المرجئة الذين يجعلون الإيمان مجرد ما في القلب أو ما في القلب واللسان يدخلون في ذلك محبة القلب وخضوعه للحق لا يجعلون ذلك مجرد علم القلب).
وإبليس عند أهل السنة كَفَرَ بالإباء والاستكبار، قال أبوعبيد القاسم في الإيمان(57):(فإنه قال:"إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين" فجعله الله بالاستكبار كافرا, وهو مقر به غير جاحد له).
والمقصود أن المرجئة قد يتوسعون في لوازم التَّكفير، بل قد يكفِّرون بأعمال لا يكفِّر عليها أهل السنة ، فذهبت طائفة من المرجئة إلى كفر شيخ الإسلام ابن تيمية، قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية( 84):(تمالأ عليه أهل عصره ففسقوه، وبدعوة بل كفره كثير منهم).
والخوارج لا يكفِّرون أنفسهم، فالأزرقي لا يكفر الأزرقي على معتقده، والإباضي لا يكفر الإباضي على معتقده، ومن أهل السنة من كفَّرهم كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود أن مجرَّد التكفير بالفعل المعين، وعلى الشخص المعين= لا يستلزم نسبة الشخص إلى مذهب بعينه ما لم ينظر إلى مقدمات التكفير وأسبابه، فقد تتشابه النتائج والمطالب ولا يستلزم ذلك تشابه المذاهب.
والحكم بردة المسلم المعين هو حكمٌ على باطنه من خلال ظاهره؛ ولهذا لا ينبغي أن يجترئ المسلم في تكفير المسلمين إلا بما لا يحتمل غير الكفر بخلاف الحكم بإسلامه فهو حكم على الظاهر المجرد؛ ولهذا يتساهل في إدخال الإنسان في الإسلام ولا يتساهل في إخراج المسلم منه إلى الكفر إلا بيقين.
حسناً..دعنا نحرر كلام شرعيي تنظيم الدولة في معاونة المشركين.
قد لا يجد المتتبع لعقيدة "تنظيم الدولة" في مسألة المظاهرة أي مشقة في تحديد مضمون عقيدتهم في هذا الباب؛ إذ يرون أن المسلم يرتكب ناقضا من نواقض الإسلام بمجرد إعانتهم بأي نوع من أنواع الإعانة.
قال أبو بكر البغدادي في مقطع بعنوان(هذه عقيدتنا):(ثامنا:نرى كفر وردة من أمد المحتل وأعوانه بأي نوع من أنواع المعونة من لباس أو طعام أو علاج ونحوه مما يعينه ويقويه، وأنه بهذا الفعل صار هدفا لنا مستباح الدم).
وقال أبومصعب الزرقاوي عن منهج الديمقراطية وأهله:(فكل من يسعى في قيام هذا المنهج بالمساعدة والمعونة فهو متول له ولأهله، وحكمه كحكم الداعين إليه والمظاهرين له.).
وقالت الهيئة الشرعية للدولة الإسلامية:(تولي أمراء الجبهة للمرتدين وموافقتهم لما هم عليه من الكفر؛ وذلك لعضويتهم في هيئة الأركان)
تلاحظون أن مجرد عضويتهم في هيئة الأركان(المرتدة) يعد توليا مخرجا من الملة!
وقالت:(وكل من تولى الأركان والائتلاف، أو ناصرهم، أو أعانهم، أو قاتل تحت رايتهم؛ فحكمه حكمهم سواء بسواء).
ثم بيَّنتْ أن الجبهة الإسلامية لم تظهر توبتها من تلك الردة بل أتت بما يناقضها؛ إذ قالت الجبهة في ميثاقها: المادة(11):(الجماعات والفصائل والألوية التي تعمل على حرب النظام الأسدي وإسقاطه:هي جماعات حليفة نتفق معها في الهدف، وننسق ونتعاون معها في سبيل تحقيقه).
فقالت الهيئة معلَّقة:(فيكون التعاون والتنسيق مع جميع مكونات الثورة، وبغض النظر عن توجهاتهم السياسية سواء كانت ديمقراطية أم لم تكن)، ثم قالت:(فيدخل في ذلك كتائب وألوية الجيش الحر التابعة للأركان والإئتلاف. والذي سوغ لهم هذا التعاون والتنسيق مع دعاة الديمقراطية:أنهم لا يكفرون أهل الديمقراطية في ميثاقهم).
ثم ذكرت أن الجبهة الإسلامية تسعى لأن تتمتع بعلاقات جيدة مع الدول، وذكرت المادة(14)، ونصها:(تحرص الجبهة الإسلامية على أن تتمتع بعلاقات دولية جيدة مع جميع الدول لم تناصبها العداء بما يحقق المصلحة وفق الضوابط الشرعية)
ثم ذكرت أن الجبهة الإسلامية 8/12/2013 حمت مقرات ومستودعات أسلحة هيئة الأركان التي تقاتل لإقامة دولة ديمقراطية تعددية..
ثم قالت:(وهذا الفعل منهم هو صريح التولي للمرتدين ومظاهرتهم على المسلمين).
حسنا..دعنا نكتفي بهذه النقولات الكاشفة عن عقيدة (تنظيم الدولة) في باب مظاهرة المشركين وأنها صريحة في كفر كل من أعان الكفار على المسلمين مطلقا دون تفصيل وبأي إعانة، بل في كفر كل من أعان الكافر الحربي مطلقا!
وعقيدة (تنظيم الدولة) في إكفار كل من أعان الكافرين الحربيين دون تفصيل توقع الأتباع في إشكاليات كثيرة؛ إذ بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه ليس كل إعانة كفر وردة، وإنما توصلوا إلى هذه النتيجة عبر مقدمتين:
المقدمة الأولى:أن كل معاونة= موالاة.
والمقدمة الثانية:أن كل موالاة= كفر
والنتيجة:أن كل معاونة= كفر
والحقيقة أنه بفساد إحدى المقدمتين تفسد النتيجة، فكيف إذا تبين بطلان المقدمتين معا؟؟
ولو استطاع هؤلاء إثبات هاتين المقدمتين؛ فيلزمهم إثبات مقدمة ثالثة في حق المعين وهي وجود الشروط وانتفاء الموانع..
وعلى أي حال ما زال ثبوت المقدمتين أو نفيهما مجرد دعاوى تحتاج إلى بيِّنات- من الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة- من الطرفين..
وسيتمحَّضُ الحديثُ-في هذه الورقةِ- حول المقدمة الأولى، وهي هل المعاونة مستلزمة للموالاة مطلقا؟، وسيتبعها أوراقٌ أخرى بإذن الله قريبا، وقد اختطت لنفسي في هذه الأوراق الاقتصاد في الدلائل فيما يغلب على ظني أن مجرد إيراد كلام أهل العلم يفي بالمقصود، ولم يكن في المسألة نزاعٌ، أو كان فيها نزاعٌ لم يحكم أحدُ طرفيه بالكفر فيها.
فهل كلُ معاونةٍ للمشركين تستلزم الموالاة؟
معاونة المشركين: إما أن تكون من أجل شركهم، وإما لغير لغير شركهم، فالأول:شركٌ باتفاق المسلمين سواء حصلت معاونة لهم أو لم تحصل، والثاني:هو محل البحث في هذه الأوراق العلمية، ومحل البحث في هذه الورقة:هو هل كل معاونة تستلزم الموالاة كما يقرره تنظيم الدولة؟ وهل قال أحد من السلف من القرون المفضلة بأن كل معاونة للمشركين-لغير شركهم- شركٌ؟
ولاريب أن هناك معاونة هي موالاة، ولكنَّ السلف قرروا أنه ليس كل معاونة لهم موالاة فضلا عن أن تكون كفرا؛ يوضح ذلك نقولاتٌ سلفيةٌ مؤيدةٌ بالكتاب والسنة يقرِّرون فيها جواز إعانة المشرك في حالات معينة، وأن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها في شيء، وينتظم بيان ذلك في خمسة مطالب:
المطلب الأول:مشروعية صلة المشرك الذمي والإحسان إليه.
فقد اتفق العلماء من شتى المذاهب الفقهية على جواز صلة الكافر الذمي، وهي إعانة مالية له، فكيف تكون موالاة أو كفرا مخرجا من الملة؟.
قال السرخسي في شرح السير الكبير(96):(لا بأس بأن يصل المسلم المشرك قريبا كان أو بعيدا، محاربا كان أو ذميا).
وهو مذهب مالك كما في النوادر والزيادات(11/ 349):(عن مالك: فيمن نذر صدقةً على كافر أن ذلك يلزمه وفي موضع آخر قال مالي صدقة على فقراء اليهود أنه يلزمه صدقة ثلث ماله عليهم، وقد قال الله تعالى:"ويُطعِمُون الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً" والأسير الكافر).
وقال النووي في روضة الطالبين(6/ 107):(الوصية للذمي صحيحة بلا خلاف)
وقال ابن قدامة في المغني(6/ 217):(وتصح وصية المسلم للذمي، والذمي للمسلم، والذمي للذمي. روي إجازة وصية المسلم للذمي عن شريح، والشعبي، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. ولا نعلم عن غيرهم خلافهم. وقال محمد بن الحنفية، وعطاء، وقتادة، في قوله تعالى:"إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا" هو وصية المسلم لليهودي والنصراني).
وقال حمد بن معمر كما في الدرر السنية(5/ 265):( فقد ذكر أهل العلم ما يدل على أن المسلم يثاب على الصدقة على الكافر، كما يدل عليه قوله تعالى:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ". وذكر أهل التفسير عند قوله تعالى:"وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ"، أنها نزلت في الصدقة على أهل الذمة.)
وقال الشيخ ابن باز في مجموع فتاويه(1/ 302):(معنى الآية المذكورة عند أهل العلم: الرخصة في الإحسان إلى الكفار، والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا، بموجب عهد أو أمان أو ذمة).
فهذا المطلب من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى بسط أدلة عليه، وقد يقول أحدهم:هذه مسألة مفروغ منها، وإنما الحديث عن الكافر الحربي!
فيقال لكم:إن كلامكم عام، ومع هذا سنستجيب لطلبكم وننظر في حكم الوصية للكافر الحربي من أجل قرابته في المطلب التالي.
المطلب الثاني:مشروعية صلة المشرك الحربي والإحسان إليه.
إن الإحسان إلى الكافر الحربي بالصدقة والوصية ونحوها قد أجازه جمهور العلماء من الأئمة وغيرهم.
فأبو حنيفة له روايتان فيما يبدو:
الرواية الأولى:النهي عن صلة الحربي، وهذا القول اختاره الجصاص، فقال في أحكام القرآن(5/ 327):(فيه النهي عن الصدقة على أهل الحرب لقوله:" إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين").
والرواية الثانية:جواز ذلك، وهذا القول اختاره السرخسي، فقال في شرح السير الكبير(96):(لا بأس بأن يصل المسلم المشرك قريبا كان أو بعيدا، محاربا كان أو ذميا).
وحرر الكاساني ذلك فقال في بدائع الصنائع(7/ 341):(وتجوز الوصية للذمي، وكذا الحربي المستأمن، وروي عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه لا يجوز، وهذه الرواية بقول أصحابنا - رحمهم الله -أشبه فإنهم قالوا: إنه لا يجوز صرف الكفارة والنذر وصدقة الفطر والأضحية إلى الحربي المستأمن لما فيه من الإعانة على الحراب، ويجوز صرفها إلى الذمي).
وللإمام مالك روايتان الجواز في رواية ابن وهب، والكراهة في رواية ابن القاسم، فرواية الجواز ذكرها أبو زيد القيرواني في النوادر والزيادات(11/ 349):(روى ابن وهب عن مالك قال: وصية المسلم للكافر جائزة واحتج بالجبة التي كسا عمر أخاه - وقاله ابن القاسم وأشهب. قال أشهب: كان ذا قرابة أو أجنبياً، وقد أوصت صفية بنت حي إلى أخ بها كافر، وقال ابن حبيب عن أصبغ: تجوز وصية المسلم للذمي ولا تجوز للحربي لأن ذلك قوةٌ لهم على حربهم ويرجع ذلك ميراثاً ولا يُجعل في صدقة ولا غيرها وكل ذي أوصى بما لا يحل، وأما الذمي فجعل الله في قتله، ديةً، وفي مُوطإٍ ابن وهب عن مالك: فيمن نذر صدقةً على كافر أن ذلك يلزمه وفي موضع آخر:قال مالي صدقة على فقراء اليهود أنه يلزمه صدقة ثلث ماله عليهم، وقد قال الله تعالى (ويُطعِمُون الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً" والأسير الكافر).
ورواية الكراهة ذكرها ابن رشد في البيان والتحصيل (12/ 477):(قال ابن القاسم: وكره مالك الوصية لليهود والنصارى، قال سحنون: قال ابن القاسم: وكان قبل ذلك يجيزه ولست أرى به بأسا إذا كان ذلك على وجه الصلة مثلَ أن يكون أبوه نصرانيا أو يهوديا أو أخوه أو أخته فيصلهم على وجه صلة الرحم فلا أرى به بأسا وأراه حسنا، وأما بغير هذا فلا).
وظاهر رواية ابن القاسم القاضية بالكراهة أنها متأخرة، وحملها على الحربي دون الذمي، أو على البعيد دون القريب= حمل ضعيف؛ لأن رواية ابن وهب عن مالك ظاهرة في إباحة الوصية للحربي البعيد، وإنما يصح حمل رواية ابن القاسم الكارهة للوصية لهم على ما إذا كانت ذريعة إلى تقويتهم في حربهم على المسلمين، وتحمل رواية ابن وهب على الجواز عند انتفاء الذريعة؛ إذ ليس كل حربي يقاتل أو ينفق على الحرب، وهو مناسب لأصول مالك في سد الذرائع ومناسب لقواعد الشريعة ونصوصها. والله أعلم.
وذهب الإمام الشافعي إلى جواز صلة الحربي، فقال في الأم(7/ 368):(أرأيت صلة أهل الحرب بالمال وإطعامهم الطعام أليس بأقوى لهم في كثير من الحالات من بيع عبد أو عبدين منهم وقد «أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسماء بنت أبي بكر فقالت إن أمي أتتني وهي راغبة في عهد قريش أفأصلها؟ قال نعم» وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فكسا ذا قرابة له بمكة وقال الله عز وجل:"ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا" مع ما وصفت من بيع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين سبي بني قريظة).
وذهب الإمام أحمد في المنصوص عنه في مواضع إلى جواز صلة الحربي، فقال في مسائله وإسحاق بن راهويه (8/ 4308):(قال أحمد: إذا أسلم الرومي، وله أخت بأرض الروم إن شاء أوصى لها، وتوصي هي له، لا بأس به).
وقال الخلال في أحكام أهل الملل والردة( 61):(أخْبَرَنَا أبو داود، قَالَ: سمعت أحمد سئل عن اليهودي والنصراني يعطون من الزكاة؟ قَالَ: من غير الفريضة يعطون.).
وفي الجملة: فصلة الكافر الحربي بالمال فيما لا تعلق له بحربه ضد المسلمين- لا ينبغي النزاع في جوازها لذاتها لوضوح الأدلة في ذلك، بل حكي الإجماع على جواز ذلك، قال ابن عبدالبر في التمهيد(14/ 300):(لا خلاف علمته بين العلماء في جواز وصية المسلم لقرابته الكفار لأنهم لا يرثونه وقد أوصت صفية بنت حيي لأخ لها يهودي).
وبهذا يتبيَّن أن هذا النوع من الإعانة ليس من الموالاة للمشركين في شيء!
فإن قيل:إن المقصود هو الإحسان إلى الكافر الحربي الذي لم يسبق له أن حارب المسلمين، أو لم يكن من المنافقين أو المرتدين..أما من كان كذلك= فهو الذي يكون الإحسان إليه ومعاونته مطلقا موالاةً وردةً!
والجواب:أن كلام العلماء عام لم يفرقوا بين هذا وهذا؛ فإن كانت معاونة الكافر-فيما لا تعلُّق له بحربه على الإسلام ونحوه- جائزة= فلا فرق بين كونه حربيا أو منافقا أو مرتدا؛ لأن إعانتهم هنا فيما لاتعلّق له بحربه ضد المسلمين وعداوته، وإنما جهة الإحسان إليه منفكة وهي القرابة أو المعروف أو الرحمة، ولا يلزم منها إعانتهم على كفرهم ونفاقهم وحربهم، قال ابن جرير في تفسيره(23/ 323):(لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهيّ عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح).
وقال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية(6/ 270):(ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن في عثمان فإن الله - تعالى - يقول:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال:«نعم صلي أمك» . وقد أوصت صفية بنت حيي بن أخطب لقرابة لها من اليهود. فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار، ولا يخرجه ذلك عن الإيمان، فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين، وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق؟).
فإن قلتم:كلامنا عن إعانة الحربي فيما يتعلق بحربه، وليس من أجل القرابة ونحوها.
قيل لكم:كلامكم عام يتناول كل إعانة، ومع هذا سنستجيب لكم، ونوضح أن ثمة حالات معينة فيها إعانة للكفار وجيشهم وتقوية لهم وهي مشروعة، وليست موالاة لهم، يوضح ذلك المطالب التالي.
المطلب الثالث:مشروعية إعانة للكفار المحاربين بغير قتال ولا سلاح للمصلحة الراجحة.
إن إعانة الكافر الحربي لدرء مفسدة راجحة، أو جلب مصلحة راجحة مشروع في الجملة، كالمنِّ على أسراهم، أو قبول مفاداتهم، أو بذل المال لهم لتأليف قلوبهم، أو دفع شرهم، ونحو ذلك.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:بذل المال للكفار لترغيبهم في الإسلام أو درء شرهم عن المسلمين؛ فهذا المال المبذول لهم لاشك أنه إعانة لهم، ولكنه ليس كفرا باتفاق أهل السنة، بل هو إعانة مشروعة في الجملة.
قال أبويوسف-وهو ممن يرى الإيمان قول وعمل- في الخراج( 226):(وإن حصر قوم من العدو قوما من المسلمين في حصن فخافوا على أنفسهم ولم يكن لهم قوة عليهم؛ فلا بأس بأن يوادعوهم ويفتدوا منهم بمال ويشترطوا لهم أن يردوا لهم من جاء منهم مسلما، وإذا كان بالمسلمين قوة عليهم لم يحل لهم أن يعطوهم واحدا من هذين الأمرين.
حدثني محمد بن إسحاق عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد يوم الخندق أن يفتدي بثلث ثمار المدينة، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة؛ فقال: "إني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، وقد رأيت أن نفتدي بثلث ثمار المدينة ونكسرهم بذلك إلى أمد ما"؛ فقالا: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء على شرك وهم لا يطمعون من ذلك في ثمرة إلا شراء أو في قرى2؛ فنحن إذ جاء الله بك وبالإسلام نعطيهم أموالنا ليس لنا بهذا حاجة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنتم وذلك".)
قال ابن المنذر في الأوسط(11/ 336):(قال الأوزاعي في أهل حصن من المسلمين نزل به العدو، فخاف المسلمون أن لا يكون لهم به طاقة، ألهم أن يصالحوهم، على أن يدفعوا إليهم سلاحهم، وأموالهم، وكراعهم، على أن يرتحلوا عنهم؟، فقال: لا بأس بذلك).
وقال الشافعي في الأم(4/ 199):(فيخافون أن يصطلحوا لكثرة العدو وقلتهم وخلة فيهم فلا بأس أن يعطوا في تلك الحال شيئا من أموالهم على أن يتخلصوا من المشركين؛ لأنه من معاني الضرورات يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها).
فإعطاء المشركين من الأموال كفَّاً لشرهم مشروع للمصلحة الراجحة، كما أن إعطاء المشرك مالا تأليفا لقلبه مشروع، ولا يمنع منه سوى الخوارج، قال ابن تيمية عن طريقة الخوارج كما في مجموع الفتاوى (28/ 294):(وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره ولا يرى أنه يتألف الناس من الكفار والفجار؛ لا بمال ولا بنفع ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم).
وقال كما في مجموع الفتاوى(28/ 290):(المؤلفة قلوبهم نوعان: كافر، ومسلم. فالكافر: إما أن يرجى بعطيته منفعةً: كإسلامه؛ أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك).
وقال كما مجموع الفتاوى (1/ 145):(روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقي لهم فاستسقى لهم وكان ذلك إحسانا منه إليهم يتألف به قلوبهم كما كان يتألفهم بغير ذلك.).
وقال الخلال في أحكام أهل الملل والردة( 10):(أن أبا طالب حدثهم، قال: سئل أبو عبد الله عن الرجل يقول للرجل اليهودي: أسلم حتى أعطيك ألف درهم، فيسلم، فلا يعطيه شيئا؟
قال: قد كان النبي-صلى الله عليه وسلم-يتألف الناس على الإسلام، لا يعجبني إلا أن يفي له).
وهذه المسألة من جنس صلة القريب الذمي والحربي؛ لدعوته إلى الإسلام، بل أولى من الصلة المجردة من أجل القرابة.
وإنما حصل النزاع في بقاء سهم المؤلفة قلوبهم مع اتفاقهم أن سهمهم مذكور في الأصناف الثمانية للزكاة في القرآن، وأن النبي-صلى الله عليه وسلم-أعطى نفرا من المشركين يتألفهم على الإسلام، وإنما حصل النزاع -بسبب نزاعهم هل هو خاص بالنبي-صلى الله عليه وسلم-أو منسوخ- على قولين:
قال أبوعبيد القاسم في الأموال( 721):(فقال بعضهم: قد ذهب أهل هذه الآية، وإنما كان في دهر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأما ما قاله الحسن، وابن شهاب، فعلى أن الأمر ماض أبدا، وهذا هو القول عندي؛ لأن الآية محكمة، لا نعلم لها ناسخا من كتاب ولا سنة.).
وذهب جمهور العلماء إلى أن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط في وقتهم، قال ابن بطال في شرح صحيح البخارى(3/ 547):(وقال مالك والكوفيون: المؤلفة قلوبهم قد سقطوا ولا مؤلفة اليوم،..وقال الشافعى: المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام، ولا يعطى مشرك يتألف على الإسلام.).
فنلاحظ أن الحنفية والمالكية قرروا سقوط السهم في وقتهم لا سقوطه مطلقا في كل وقت؛ ولهذا قال الكاساني في بدائع الصنائع(2/ 45):(ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام ولهذا سماهم الله المؤلفة قلوبهم والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة وأولئك كثير ذو قوة وعدد واليوم بحمد الله عز الإسلام وكثر أهله واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه وصار أهل الشرك أذلاء، والحكم متى ثبت معقولا بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى.)
وقال ابن الجلاب المالكي في التفريع(1/ 167):(ويجوز دفع ذلك إليهم قبل إسلامهم، وقد سقط في هذا الوقت سهمهم للغنى عنهم، فإن احتيج في وقت إلى تأليفهم جاز أن يدفع إليهم.).
وأما الشافعي-مع أنه يمنع من ذلك- جوزه في بعض الحالات، مثل من كان من جنس صفوان الذي ناصر النبي-صلى الله عليه وسلم- وأعاره أدرعا، فقال في الأم للشافعي(2/ 92):(وقد أعطى صفوان بن أمية قبل أن يسلم)، ثم قال:( فإذا كان مثل هذا رأيت أن يعطى من سهم النبي- صلى الله عليه وسلم -، وهذا أحب إلي للاقتداء بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).
ولهذا جوز أن يعطى كل مشرك من الزكاة إذا احتاج المسلمون إلى نصرته في النوازل، فقال في الأم للشافعي(2/ 93):(فأرى أن يعطى من سهم المؤلفة قلوبهم في مثل هذا المعنى إن نزلت بالمسلمين نازلة مما ينزل إن شاء الله تعالى، وذلك أن يكون فيها العدو بموضع شاط لا تناله الجيوش إلا بمؤنة ويكون العدو بإزاء قوم من أهل الصدقات فأعان عليهم أهل الصدقات إما بنية فأرى أن يقوى بسهم سبيل الله من الصدقات، وأما أن يكون لا يقاتلون إلا بأن يعطوا سهم المؤلفة، أو ما يكفيهم منه، وكذلك إن كان العرب أشرافا ممتنعين غير ذي نية إن أعطوا من صدقاتهم هذين السهمين، أو أحدهما إذا كانوا إن أعطوا أعانوا على المشركين فيما أعانوا على الصدقة، وإن لم يعطوا لم يوثق بمعونتهم رأيت أن يعطوا بهذا المعنى إذا انتاط العدو وكانوا أقوى عليه من قوم من أهل الفيء يوجهون إليه تبعد دارهم وتثقل مؤنتهم ويضعفون عنه، فإن لم يكن مثل ما وصفت مما كان في زمان أبي بكر مع امتناع أكثر العرب بالصدقة على الردة وغيرها لم أر أن يعطى أحد منهم من سهم المؤلفة قلوبهم).
وأما أحمد فله روايتان، قال القاضي أبويعلى في المسائل الفقهية(2/ 43):(فنقل أبو طالب وإبراهيم بن الحارث: جواز ذلك وهو اختيار الخرقي وأبي بكر ونقل حنبل لا يجوز، وأن حكمهم قد انقطع اليوم).
فنلاحظ أن رواية المنع مبنية على أنها انقطعت وقتهم لا مطلقا؛ ولهذا وجه القاضي هذه الرواية يقوله بعد ذلك، المسائل الفقهية(2/ 43):(ووجه الثانية: أن عمر وعثمان وعلياً ما كانوا يعطون المؤلفة شيئاً ولأن الله تعالى قد أعز الإسلام عن أن يتألف له من يكف شره من المشركين أو يرجى إسلامه منهم.).
والأظهر هو بقاء سهم المؤلفة قلوبهم، وسواء ثبت هذا أو لم يثبت، فإعطاء المشرك من المال الخاص تأليفا لقلبه على الإسلام من الجهاد المالي، وهو وإن كان إعانة للكافر إلا أنه مغتفر للمصلحة الراجحة وهي أولى بالجواز من صلته من أجل القرابة.
قال أبوعبيد القاسم في الأموال( 251):(فإذا خاف من عدو غلبه لا يقدر على دفعهم إلا بعطية يردهم بها فعل، كالذي صنع النبي-صلى الله عليه وسلم- بالأحزاب يوم الخندق، وكذلك لو أبوا أن يسلموا إلا على شيء يجعله لهم، وكان في إسلامهم عز للإسلام، ولم يأمن معرتهم وبأسهم أعطاهم ذلك ليتألفهم به، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمؤلفة قلوبهم، إلى أن يرغبوا في الإسلام وتحسن فيه نيتهم).
المسألة الثانية:في المنّ على الأسرى ومفاداتهم.
من المعلوم أن المنَّ على الأسير الكافر وقبول مفاداته قد يكون فيه تقوية للكفار وتكثيرا لسوادهم، فهل يجوز المنّ عليهم أو مفاداتهم؟
قال ابن المنذر في الأوسط (11/ 224):(اختلف أهل العلم في الأسارى، فقالت طائفة: الإمام بالخيار إن شاء منَّ عليهم، وإن شاء قتلهم، وإن شاء فادى بهم، وإن شاء من على بعضهم، وقتل بعضهم، وفادى بعضهم، ولا ينبغي له أن يقتلهم إلا على النظر للمسلمين من تقوية دين الله وتوهين عدوه وغيظهم، وقتلهم بكل حال مباح، هذا قول الشافعي، وبه قال أبو ثور، وهو مذهب أحمد بن حنبل. وقال مالك في الرجال البالغين: ذلك إن شاء قتلهم وإن شاء فادى بهم أسرى المسلمين. وقال الأوزاعي في الأسير: يقتله إن شاء، وإن شاء عرض عليه الإسلام، فإن أسلم فهو عبد للمسلمين، وإن شاء من عليه، وإن شاء فادى به أسرى المسلمين، وكان سفيان الثوري، وأبو عبيد يقولان: الإمام مخير في أسرى المشركين إن شاء قتلهم، وإن شاء فادى بهم، وإن شاء من عليهم، وإن شاء استرقهم، وقال أصحاب الرأي في الرجال البالغين: إن شاء أن يعرض عليهم الإسلام فعل، وإن لم يعرض فلا بأس، فإن شاء ضرب أعناقهم، وإن رأى أن يمن عليهم ويصيرهم فيئا يقسم بين المسلمين فعل).
ونلاحظ أن جمهور العلماء على جواز المنّ على الأسرى، وقال ابن المناصف في الإنجاد في أبواب الجهاد( 263):(مذهب مالكٍ، والشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيدٍ، وغيرهم؛ لأنهم كلهم يرون جواز القتل والمنّ والفداء للإمام بحسب ما يرى في الأسرى من مصلحة المسلمين.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز المنُّ ولا الفداء، كأنه رأى ذلك منسوخاً).
ولم يختلف العلماء-فيما أعلم- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-منَّ على بعض الأسرى، وإنما خالف أصحاب الرأي وغيرهم في جوازه بعد ذلك، إما لأنه منسوخ أو من باب أن الحرب خدعة ونحو ذلك، وأما جمهور العلماء فعلى جواز المنّ عليهم، وليس هذا حكما اعتباطيا، وإنما هو مشروط بحصول مصلحة راجحة تغتفر بها مفسدة التقوية لهم بالمن ّوتكثير عددهم.
قال الشافعي في الأم(4/ 275):(ولا ينبغي له أن يمن عليهم إلا بأن يكون يرى له سببا ممن من عليه يرجو إسلامه، أو كفه المشركين، أو تخذيلهم عن المسلمين، أو ترهيبهم بأي وجه ما كان، وإن فعل على غير هذا المعنى كرهت له ولا يضمن شيئا).
وهل اشتراط المال لفكاك أسارى الكافرين من المصلحة الراجحة الجائزة؟ قولان مشهوران!
قال أبو عبيد القاسم في الأموال( 162):(وأما أكثر العلماء فعلى الكراهة؛ لأن يفادى المشركون بمال يؤخذ منهم ويمدوا بالرجال، لما في ذلك من القوة لهم، وممن كرهه: الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان، فيما يروى عنهم).
والأظهر-والله أعلم-هو جواز افتكاك أسراهم بالمال إذا وجدت مصلحة راجحة وهو مذهب الشافعي وأحمد وهو ما يميل إليه أبوعبيد القاسم فيما يظهر.
قال الشافعي في الأم(7/ 368):(إذا سبى المسلمون رجالا ونساء وصبيانهم معهم فلا بأس أن يباعوا من أهل الحرب، ولا بأس في الرجال البالغين بأن يمن عليهم، أو يفادي بهم ويؤخذ منهم على أن يخلوا والذي قال أبو يوسف من هذا خلاف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى يوم بدر فقتل بعضهم وأخذ الفدية من بعضهم ومن على بعض ثم أسر بعدهم بدهر ثمامة بن أثال فمن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مشرك ثم أسلم بعد ومنّ على غير واحد من رجال المشركين، ووهب الزبير بن باطا لثابت بن قيس بن شماس ليمنّ عليه فسأل الزبير أن يقتله وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبي بني قريظة فيهم النساء والولدان فبعث بثلث إلى نجد وثلث إلى تهامة وثلث قبل الشام فبيعوا في كل موضع من المشركين وفدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا برجلين. أخبرنا سفيان بن عيينة وعبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدى رجلا برجلين» ).
وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني ( 333):(سمعت أحمد، سئل عن الأسير يحلف لهم أن يبعث إليهم بمال، أيفي لهم به؟ قال: نعم).
قال أبو عبيد القاسم في الأموال( 161):(عن ضبة بن محصن، قال: شاكيت أبا موسى الأشعري في بعض ما يشاكي الرجل أميره، فانطلقت إلى عمر وذلك عند حضور من وفادة أبي موسى، فقلت يا أمير المؤمنين، اصطفى أبو موسى من أبناء الأساورة أربعين لنفسه - في حديث طويل ذكره - قال: فما لبثنا إلا قليلا حتى قدم أبو موسى، فقال له عمر: ما بال الأربعين الذين اصطفيتهم من أبناء الأساورة لنفسك؟ قال: نعم، اصطفيتهم وخشيت أن يخدع الجند عنهم، وكنت أعلم بفدائهم، فاجتهدت في الفداء ثم خمست وقسمت قال: يقول ضبة صادق والله، قال: فوالله ما كذبه أمير المؤمنين ولا كذبته.
قال أبو عبيد: قوله: فاجتهدت في الفداء ثم خمست وقسمت ينبئك أنه إنما افتداهم بالمال، لا بافتكاك المسلمين من أيديهم وهذا رأي يترخص فيه الناس).
ولهذا أعطى النبي-صلى الله عليه وسلم- المؤلفة قلوبهم أموالا طائلة، وأعطى أحدهم واديا من غنم، قال الخطابي في معالم السنن(2/ 290):(وأما الذين اعتلوا به من تقوية الكفر فإن الإمام إذا رأى أن يعطي كافرا عطية يستميله بها إلى الإسلام كان ذلك جائزا وإن كان في ذلك تقوية لهم فكذلك هذا، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الكفار غنما بين جبلين).
ومما يوضح هذا أن عامة العلماء-ممن يرى جواز المنّ عليهم وممن لا يرى ذلك كجمهور الحنفية-يرون جواز مفاداة الأسرى بأسرى مسلمين، مع أن فيه تقوية لهم إلا أن هذا معفوٌ عنه للمصلحة.
قال أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي( 62):(وأما الرجال والنساء فقد صاروا فيئا للمسلمين فأكره أن يردوا إلى دار الحرب أرأيت تاجرا مسلما أراد أن يدخل دار الحرب برقيق للمسلمين كفارا أو رقيق من رقيق أهل الذمة رجالا ونساءا أكنت تدعه وذلك ألا ترى أن هذا مما يتكثرون به وتعمر بلادهم ألا ترى أني لا أترك تاجرا يدخل إليهم بشيء من السلاح والحديد وشيء من الكراع مما يتقوون به في القتال ألا ترى أن هؤلاء قد صاروا مع المسلمين ولهم في ملكهم ولا ينبغي أن يفتنوا ولا يصنع بهم ما يقرب إلى الفتنة وأما مفاداة المسلم بهم فلا بأس بذلك).
وقال أبو عبيد القاسم في الأموال( 164):(وكلهم يرى أن يفادى الرجال والنساء بعضهم ببعض).
فظَهَرَ بذلك أن هذا النوع من الإعانة في حربهم؛ لوجود مصلحة راجحة= ليس من الموالاة في شيء، فكيف يكون كفرا وردة كما يزعم تنظيم الدولة؟
المطلب الرابع: بذل السلاح والكراع ونحو ذلك للكفار لمصلحة راجحة.
وصورتها:أن يقوم المسلمون بإعانة جيش كافر بالسلاح والكراع(الخيل) على جيش آخر كافر للمصلحة الراجحة؛ لغرض إضعاف أشدهما عداوة، أو أكثرهما قوة، ونحو ذلك من المصالح، ولاحظ أن الكلام هنا على الجواز من غير ضرورة!
ولا ريب أن المعاونة هنا ليست من أجل الشرك ولا من أجل المشركين، بل هي من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين، ولا ريب أن حقيقة هذه المعاونة لجيش كافر هي إضعاف لجيش كافر أعتى منه، ومفسدة هذه المعاونة أدنى من مصلحة إضعاف كافر أشد منه، بل قد يكون فيها إضعاف الطرفين وهو الغالب، وقواعد الإسلام جاءت باحتمال أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، وقد أشار إلى هذا الإمام ابن حبيب المالكي كما في النوادر والزيادات(3/ 35)فقال:(ولا بأس أن يقوم بمن سالمه من الحربيين على من لم يسالمه منهم بالسلاح ونحوه, ويأمرهم بنكايتهم، ولا بأس أن يكون من سالمه منهم بحذاء عسكره وقربه ومسايرين له يقوون بظلمه على من حاربه منهم ما لم يكونوا في داخل عسكره).
فمن عاون مشركا بالسلاح ونحوه لإسقاط نظام بشار الأسد كان فعله مشروعا هذا في حال الاختيار، فكيف بحال الاضطرار؟ وكيف يكون المشروع ممنوعا؟ وكيف يكون كفرا مخرجا من الملة؟
وهذا على التسليم أن من أعانوه كان مشركا مرتدا، وإلا فإن غالب أحكام الكفر والردة التي أطقها تنظيم الدولة على خصومه إنما هي بمثل هذه الموالاة الموهومة ونظائرها.
المطلب الخامس: حماية أهل الذمة والمستأمنين والمهادنين.
فالعلماء قرروا أن حماية أهل الذمة والمستأمنين والمهادنين من المسلمين التابعين للدولة الإسلامية واجبة؛ لأن حمايتهم ليس من أجل دينهم، وإنما هي من أجل ما أعطيناهم إياه من الذمة والعهد؛ فحمايتهم إن كانت بإزاء عوض أو جزية؛ لحقن دمائهم، أو سكنى بلاد المسلمين= فهي من جنس عقد الإجارة، وهي لازمة باتفاق الأئمة، وإن لم تكن بإزاء عوض كالمستأمن= فهي من جنس الوعود التي لا يجوز إخلافها، وكلها داخلة في قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) فإليكم جملة من كلام العلماء توضح ذلك:
قال محمد بن الحسن كما في شرح السير الكبير( 1853):(الأصل أنه يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا، وأن ينصفهم ممن يظلمهم، كما يجب عليه ذلك في حق أهل الذمة؛ لأنهم تحت ولايته، ما داموا في دار الإسلام، فكان حكمهم كحكم أهل الذمة).
وقال الشافعي الأم(4/ 219):(وينبغي للإمام أن يظهر لهم أنهم إن كانوا في بلاد الإسلام، أو بين أظهر أهل الإسلام منفردين، أو مجتمعين= فعليه أن يمنعهم من أن يسبيهم العدو، أو يقتلهم منعه ذلك من المسلمين).
وقال ابن قدامة في المغني(9/ 362):(وإذا عقد الذمة، فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة؛ لأنه التزم بالعهد حفظهم، ولهذا قال علي - رضي الله عنه -: إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا. وقال عمر - رضي الله عنه - في وصيته للخليفة بعده: وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرا، أن يوفي لهم بعهدهم، ويحاط من ورائهم.)
وقال ابن تيمية في الهدنة العدة شرح العمدة (651):("وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحرب"؛ لأنه أمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده، ومن أتلف من المسلمين أو أهل الذمة عليهم شيئاً أو قتل منهم أحداً فعليه ضمانه، ولا يلزم الإمام حمايتهم من أهل الحرب، ولا حماية بعضهم من بعض؛ لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط.)
وقال ابن تيمية كما في المستدرك على مجموع الفتاوى(4/ 130):(فإن المسلمين لهم إنعام وحق على أهل الذمة: بحقن دمائهم، والقتال عنهم، وحفظ دمائهم، وأموالهم، وفداء أسراهم).
تنبيـــــــــــــــــــه:
ومما ينبغي التنبيه عليه هو أن بعض الباحثين المعاصرين يبرِّر عدم نصرة المسلمين لإخوانهم بوجود مواثيق دولية ينبغي احترامها، فيقول الشيخ عبدالعزيز الحميدي في الاقتصادية 11 رمضان 1431هـ، ثم نشر أخرى في سبق 28 ربيع الأول 1432ه، يقول:(من حق إمام المسلمين وولي أمرهم أن يلتزم بالعهود والمواثيق التي وقعها مع الدول الكافرة، وأن يقدم هذا الالتزام على واجب النصرة لدولة مسلمة وقع عليها عدوان من الدولة الكافرة التي وقع معها ميثاقا وعهدا).
وهكذا يقرر الشيخ عبدالعزيز الريس في كتابه مهمات في الجهاد(50):(كل دولة مستقلة في الحكم؛ فإذا كان بينها وبين دولة كافرة عهد وميثاق، فاعتدت هذه الدولة الكافرة على دولة أخرى مسلمة، فلا يصح للدولة المسلمة أن تنصر أختها المسلمة على الكافرة ما دام بينها وبين الكافرة عهد وميثاق). ونظائر ذلك من الإطلاقات!
وهذا غلط ظاهر؛ فإن المواثيق بين الدول المعاصرة غير مؤقتة؛ فإن كانت هدنة دائمة لازمة= لم تصح باتفاق المسلمين، وإن كانت هدنة مطلقة جائزة-وهي الهدنة التي يصح لكل واحدة من الدولتين نقض الهدنة بشرط إعلام الدولة الأخرى- = فهي صحيحة على قول طائفة من أهل العلم كالشافعي وأحمد في رواية، واختارها ابن تيمية، وابن القيم، وهو الصواب، وإنما الميثاق الذي يمنع من نصرة المسلمين هو الهدنة المؤقتة اللازمة.
قال الشافعي في الأم(4/ 200):(فإذا أراد الإمام أن يهادنهم إلى غير مدة هادنهم على أنه إذا بدا له نقض الهدنة فذلك إليه).
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة(2/ 876):(الصواب أنه يجوز عقدها مطلقة ومؤقتة، فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة، ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة، والوكالة، والمضاربة ونحوها= جاز ذلك، لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء.
ويجوز عقدها مطلقة، وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد، بل متى شاء نقضها، وذلك أن الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا).
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى(29/ 140):(وأما قوله سبحانه:"براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" فتلك عهود جائزة لا لازمة؛ فإنها كانت مطلقة، وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها، ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن الهدنة لا تصح إلا مؤقتة: فقوله-مع أنه مخالف لأصول أحمد-يرده القرآن، وترده سنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في أكثر المعاهدين؛ فإنه لم يوقت معهم وقتا، فأما من كان عهده مؤقتاً فلم يبح له نقضه بدليل قوله:"إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين").
ونلاحظ أن (الهدنة المطلقة) تشبه إقرار الكفار في بلاد المسلمين من غير دفع جزية، والفرق بينهما أن المسلمين في الهدنة المطلقة إما لم يقدروا على قهر الكافرين ولا إلزامهم بالجزية، أو كان في مهادنتهم مهادنة مطلقة -جائزة غير لازمة-حاجة ماسة للمسلمين كما هادن يهود خيبر للمصلحة الراجحة للمسلمين؛ من أجل قيامهم بشؤون الفلاحة، وهذه الهدنة مع أنها كانت قبل آية الجزية إلا أن النبي-صلى الله عليه وسلم-وأصحابه= لم يفرضوها عليهم بعد نزول آية الجزية، بينما الجزية عقد واجب لازم عند القدرة على ذلك.
قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى(19/ 23):(أقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية إلى أن أجلاهم عمر؛ لأنهم كانوا مهادنين له وكانوا فلاحين في الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم ثم أمر بإجلائهم قبل موته وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب).
وقد ظن كثير من التنويرين وأضرابهم أن مصالحة النبي-صلى الله عليه وسلم- لليهود حين قديم المدينة، أو لأهل خيبر من المواثيق اللازمة، قال د.حاكم المطيري في تحرير الإنسان(129):(ففي هذه الصحيفة الدستورية تجلى مبدأ المواطنة لكل من يعيش على أرض المدينة من يهود المدينة ومواليهم في كافة الحقوق دون تمييز أو ظلم)
بل أدهى من ذلك أن نواف القديمي في أشواق الحرية(102):(وطن فيه مسلمون ويهود تشاركوا في وضع دستور هذا الوطن).
وهذا كله غلط ظاهر؛ وإنما هذه هدنة مطلقة فيها المشاركة على حماية المدينة، كما هادن يهود خيبر هدنة مطلقة على المشاركة في المزارعة؛ لوجود المصلحة في ذلك، والحكم في ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم-وليس لليهود من ذلك شيء، ولم يعامل اليهود أفرادا كل واحد منهم يمثل نفسه كما هو مقتضى المواطنة، وإنما عاملهم كأمم مستقلة، وهو عقد جائز غير لازم، يزول حسب المشيئة، أو بالخيانة عن تلك الأمة، والمواطنة عقد لازم، فلا تزال عنه بالمخالفة، وإنما يعاقب عليها الفرد، وأي مواطنة والنبي-صلى الله عليه سلم-حين رجع من بدر هدد يهود بني قينقاع، فقد أخرج أبوداود في سننه(3/ 154):(عن ابن عباس، قال: لما أصاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قريشا يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال:"يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا"، قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا، لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله عز وجل في ذلك:"قل للذين كفروا ستغلبون").وحسن إسناده ابن حجر في الفتح(7/ 332).
فإن قلتم:إسناد ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد، قيل لكم:ومراسيل الزهري أضعف منه، وهو حجتكم في صحيفة المدينة!
ثم إنه يلزم من كلامهم أن لو كان اليهود أكثرية فالحكم لهم ولو كانت القوة مع النبي-صلى الله عليه وسلم-، وهذا بلا ريب غلط، ومن سبر التاريخ عرف أن عدد اليهود بشتى بطونهم في المدينة مقارب لعدد الأنصار في المدينة أو أزيد، فالقبائل اليهودية الكبرى يقدر عدد كل واحدة منها سبعمائة مقاتل، فمجموع الثلاث ما يقارب الألفين ومائة مقاتل، أضف إلى ذلك عشرين بطنا من اليهود يقطنون المدينة لو قدِّر عدد كل واحد منها بمائة مقاتل، فمجموع عدد المقاتلين من هؤلاء البطون الصغيرة يساوي ألفين، فإذا أضفنا إليها عدد البطون الثلاث الكبرى= صار مجموع القبائل اليهودية كلها في المدينة أكثر من أربعة ألاف مقاتل!
أضف إلى ذلك أن كثيرا من قبائل الأنصار لم تعلن إسلامها عند مقدم النبي-صلى الله عليه وسلم-وإنما لزمت الحياد، ثم وجد المنافقون، وهم يتناقصون عاما بعد عام؛ لأن من خالطة بشاشة قلبه الإيمان لم يرد في العادة.
ولو قدِّر أن الصحيفة النبوية تعارض دفع الجزية لكانت منسوخة بآية الجزية التي لم تنزل يومئذ باتفاق المسلمين.
والغرض من إيراد مثل هذه الأقوال أنها مع محاولتها لدفع الغلو في التكفير إلا أن ضعفها بادٍ عليها لأغلب عوام المسلمين، فكيف بطلبة العلم النابهين؟؛ مما يجعل تلك الأسئلة الملحة خلواً من الأجوبة الصحيحة، والانحراف أياً كان لا يعالج بالظلم والجهل، وإنما يعالج بالعلم والعدل.
وفي الجملة:فإن هذه المطالب وغيرها توضِّح بما لا يدع مجالاً للشك أن إعانة الكفار تباح في مثل هذه المواضع ونظائرها مما أضربت عنها صفحا مما يحتاج إليها المسلمون إذا وجدت مصلحة راجحة يعرفها أهل المعرفة بذلك؛ مما يبين خطأ من أطلق لفظ الكفر على كل إعانة دون الالتفات إلى شرط أو مانع كما يطلقه شرعيوا تنظيم الدولة كقول هيئتهم الشرعية:(وكل من تولى الأركان والائتلاف، أو ناصرهم، أو أعانهم، أو قاتل تحت رايتهم؛ فحكمه حكمهم سواء بسواء).
*تحليل الاضطراب في فهم العلاقة بين( التعاون، والحب الفطري، والحب الشرعي).
دعونا نحلل العلاقة بين هذه المفردات الثلاث(التعاون أو التعامل-الحب الفطري-الحب الشرعي)؛ إذ التعاون مع الكافرين إما أن يكون من أجل باطلهم، وإما أن يكون لغير باطلهم، فالأول:كفر باتفاق المسلمين، والثاني:إما أن لا يستلزم إعانتهم على باطلهم وإما أن يستلزم؟، فالأول:مشروع في الجملة، والثاني:إما أن لا توجد مصلحة في إعانتهم أو توجد، فالأول:ممنوع، والثاني:إما أن تكون مصلحة مرجوحة وإما أن تكون مصلحة راجحة؟ فالأول:ممنوع، والثاني:مشروع.
فنلاحظ أن معاونتهم مشروعة في موضعين:
الموضع الأول:عندما تكون إعانتهم لغرض مشروع وغير مستلزمة لإعانتهم على الكفر.
والموضع الثاني:عندما تستلزم إعانتهم على شيء من الباطل، لكن وجدت مصلحة راجحة.
ويظهر أن كثيرا ممن خلط في هذه المسائل بنى كلامه على أصلين باطلين:
الأصل الأول:أن الكافر المعيَّن لا يجتمع فيه بغض وحب من وجهين مختلفين؛ وبناءً على هذا الأصل ضلت طائفتان:
الطائفة الأولى:حينما ظنوا التعارض بينهما= فقرروا أن الكافر لا يحب مطلقا سواء كان محاربا أو غير محارب، ولو كان أقرب قريب؛ إذ محبته لقرابته مستلزمة لمحبته لكفره؛ ولهذا لا يجوز الإحسان إليه ولا إعانته بأي نوع من أنواع الإعانة مطلقا؛ لأن هذه الإعانة والإحسان مستلزمة لمحبته المنافية للإيمان، كما قال تعالى:(لا تجد قوما..)وهذا هو مقتضى تنظيرات تنظيم الدولة.
الطائفة الثانية:حينما ظنوا التعارض بينهما= فقرروا أن الكافر المسالم= يحب مطلقا، والكافر المحارب= يبغض مطلقا، وهو ما قرره الشيخ القرضاوي والشيخ الزحيلي وغيرهما، واستدلوا بقوله تعالى:( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
والصواب أنه لا تعارض بينهما أصلا، وأن الكافر يبغض لكفره في السِلم والحرب، ويحب لقرابته في السِلم والحرب، وتوضيح ذلك:هو أن محبة المؤمن لإيمانه تتنافى مع محبته الكافر لكفره؛ إذ الإيمان والكفر نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأما محبته لهم من أجل قرابة ونحوها لا تتنافى مع محبته للإيمان إلا إذا حصل من قرابته محاداة لدين الله وحرب عليه، فإن العمل بمقتضى المحبة الفطرية في ذلك الموضع وتلك الجهة يتنافى مع العمل بمقتضى المحبة الإيمانية، فيجب عليه تقديم محبته الإيمانية على ما سواها من المحاب الفطرية؛ وتكون المحاب الإيمانية لاغيةً حكماً لمصادمتها ما هو أقوى منها، بل تكون تلك المحاب الفطرية مكروهة لا لذاتها، وإنما لمعارضتها لما هو أقوى منها، كمن يذهب يشتري أحد الطعامين المحبوبين إليه، ولا يستطيع شراءهما معا، وأحدهما أحب إليه؛ فإذا أعطي الأدنى رفضه وكرهه لا لذاته؛ وإنما لمعارضته لما هو أحب إليه منه.
والمقصود أن المحبة الفطرية باقية، لكنها تكون مكروهة لا لذاتها عند مصادمتها لمحبته الإيمانية كما قال تعالى:( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
الأصل الثاني:ظنهم التعارض المطلق بين التعامل الحسن والبغض، وهي قريبة من الأصل الأول، وقد ضلت في نفس الطائفتين:
الطائفة الأولى:لما ظنت التعارض بينهما= فقدمت البغض للكافر على حسن التعامل معه مطلقا، وقرروا أن التعامل الحسن يتنافى مع الإيمان وهو من الموالاة بل من الكفر والردة، وهو ظاهر كلام تنظيم الدولة كما تقدم تقرير كلامهم.
الطائفة الثانية:لما ظنت التعارض بينهما= فقررت أن الكافر غير المحارب يحب ولا يبغض كما يعامل تعاملا حسنا، ويبر، ويقسط إليه، وأما الكافر المحارب فيبغض مطلقا كما لا يعامل معاملة حسنة، ولا يبر، ولا يقسط إليه، وهو تقرير الشيخ القرضاوي والشيخ الزحيلي وغيرهما.
والحق أن بغض الكافرين لكفرهم لا يتنافى مع حسن التعامل معهم، وبرهم، والإقساط إليهم، وإنما ينافي الإعزاز والتبجيل والرفعة ونظائر ذلك، وإنما الذي ينافي حب الإيمان والمؤمنين هو كل تعاملٍ، وبرٍ، وإحسانٍ يستلزم ضررا على المسلمين، أو نصرة للكفر والكافرين، فهاهنا يحصل التعارض بينهما، قال ابن جرير في تفسيره(23/ 323):(لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهيّ عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح).
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة(1/ 602):(فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء وقطع المودة بينهم وبينهم، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة، فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه، وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة).
والمقصود من هذه المباحث هو تقرير أنه ليس كل معاونة موالاة، وسيأتي في الأوراق القادمة-إن شاء الله- تقريرات توضيحية في أن كثيرا من أنواع المعاونة= هي موالاة منهي عنها، لكن الموالاة شعب ودرجات..
- قرأت 1592 مرة