المشايخ العلمانيون

د. أحمد بن فارس السلوم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قد يكون من نافلة القول أن نذكِّر بنشأة العلمانية في القرون الوسطى المظلمة في أوروبا، ردةَ فعلٍ على الجَور الذي كانت تُعانيه من رجالات الكنسية المتحالفين مع سلاطين السوء؛ فقد أدى هذا الطغيان إلى النفور من الدين المحرف أصلًا، وإلى الانحراف عن الله عز وجل؛ إذ إن هؤلاء الطواغيت كانوا يوقعون باسمه، ويمنحون الخلق نيابة عنه الجنة، ويعاقبونهم بالنار، فنشأت فكرة العلمانية على أنها المخلص من الظلم والطغيان الذي كانت تعيشه القارة الأوربية.

 

وتمخضت الصراعات الأوربية الطاحنة بين الحاكم والمحكوم عن هذا النظام القائم على قصر الدين على العلاقة بين المرء وربه فيما بينه وبين نفسه، دون أن يكون للتعاليم الدينية أي دور في توجيه أنظمة الحياة المختلفة؛ فالعلمانية: هي فصل الدين عن الحياة.

 

لقد كانت النصرانية ورجالاتها السبب الرئيس لثورة الأوربيين على نظام الحكم الديني النصراني، ولا غرابة في ذلك؛ لأن النصرانية الحاكمة آنذاك لم تكن دينًا سماويًّا صحيحًا، ولا الإنجيل المعتمد عليه بكتاب سماوي صحيح، بمعنى أنه لم يكن على هيئته يوم نزل من السماء؛ فإن الأهواء البشرية عَبِثت به، واجتالته شياطين الإنس ذات اليمين وذات الشمال.

 

لقد كان فساد رجال الدين وتسلطهم على كتابهم تحريفًا وتغييرًا أمرًا قديمًا جدًّا؛ لأنه بدأ بُعَيد رفع المسيح عليه السلام بقليل، وقد قص الله عز وجل علينا في كتابه طرفًا من أحوالهم فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34].

 

وقال عن الطغيان الديني الذي جرهم إلى استعباد الناس: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [التوبة: 31].

 

ولذلك لم يكن مستغربًا أن يثور الناس على هكذا نظام يحكم، يسترقُّ البشر للبشر، ويستعبد الناس لبعض الأجناس؛ فإن الله عز وجل غرز في طبائع البشر حب الحرية، وجعل ذلك هو الأصل، وفطر خلقه على أن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده.

 

بقي العالم الإسلامي بعيدًا عن تجاذبات العلمانية، وعن إفسادها للفطرة؛ لأن الداعي لظهورها في أوربا لا يوجد مثله بين المسلمين.

 

ولم يعرف العالم الإسلامي العلمانية طيلة قرون العزة والمجد، ولا ما بعدها، ولا حتى في زمن الدولة العثمانية التي ضعف في آخرها الدين، وكثر فيها الوهن، حتى كان منذ قرن تقريبًا، بدأت العلمانية تتردد في شوارع المسلمين على أيدي المحتل الأوربي، الذي سمى نفسه زورًا وبهتانًا بـ: المستعمر، وتلقَّيْنا منه هذه التسمية.

 

خرج هذا المستعمر المزعوم مهزومًا عسكريًّا على أيدي مَن جاهد لإعلاء كلمة الله، ولرفع راية الدين، ولكن الغاية مِن جهاد هؤلاء لم تتحقق؛ إذ لم تعد الأمة الإسلامية بعد خروج المستعمر إلى ما كانت عليه قبل دخوله؛ فقد استبدلت بنظام الحياة فيها نظامَ الأوربيين، القائم على العلمانية، ووجد هذا الأمر من النخبة المصنوعة من المستعمر استحسانًا وتزويرًا، مررت به ما تريد على الدَّهماء، ودخلت بذلك العلمانية - من غير سيف أو دم مهراق - إلى العالم الإسلامي.

 

وما هو إلا قليل حتى ذهبت الغمرة، وجاءت الفكرة، فعلم الناس ومَن بذل وجاهد، ومَن علم وتعلم، أنهم على شفا جرف هارٍ، وأن جهادهم منقوص، وتحررهم مشوه؛ فتنحية حكم الله عز وجل من الأرض طامة لم تعشها الأمة الإسلامية مِن قبل، وهذا النظام البديل فاسد سيهلك الحرث والنسل.

 

لم يكن الذين مكنوا للعلمانية عقلاء ولا مفكرين، ولا أئمة مبرزين، ولم يقدموا مبررات أكثر من أن الغرب أخذ بها، وحسبك أن تأخذ أوربا بأمرٍ كي يكون صحيحًا.

 

لقد كانت تنحية شريعة الله عز وجل عن الأرض المسلمة عودة إلى الجاهلية، وانتكاسة في الضلالة، ولكن الأمة لم تشعر بذلك في حينها؛ فقد كانت الفرحة بطرد المحتل الأوربي طاغية، والرغبة بالعصرنة والتجديد جامحة؛ فقاوم هذا المدَّ الجارف ثلةٌ من العلماء الربانيين، وبينوا خطر ذلك، وما فيه من المهالك؛ فديننا ليس بدين مستبد، ولا يرعى الاستبداد، وليس هو بدين كهنوتي يعطي رجاله هالة من القدسية، ومنزلة من التعظيم، بل هو دين شرائعي؛ أي: إنه يمتلك نظامًا ساميًا، ودستورًا سامقًا، يغطي جوانب الحياة كلها، ولا سيما الأنظمة الثلاثة التي يدور عليها صلاح الأمم والشعوب، ويكثر فيها كلام المفكرين والفلاسفة: النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي.

 

إلا أن صوتهم لم يُسمع، لا سيما مع تسلط الحكام الذين خلفهم المحتل الأوربي بعده، وملَّكهم على رقاب المسلمين.

 

وانقسمت الأمة الإسلامية إزاء هذا الواقع إلى أقسام:

1 - قسم يؤمن بالعلمانية ويدعو لها، ويعلق عليها آمال التقدم والرقي، ويعلل الهزيمة والتخلف بالتمسك بالدين، وعامة الطبقة الحاكمة كانت من هؤلاء؛ فإن المحتل ما خرج حتى رباهم على عينه، واصطنعهم بأدواته.

 

2 - وقسم لا يدري ما الأمر، إلا أنه رأى في العلمانية تفلتًا من التكاليف الشرعية، وهذا أمر تتوق له النفوس الشهوانية، والطباع البطالة، ولكنه - على ذلك - لو ذُكر تذكر، ولو وُعظ انتبه.

 

3 - وقسم أدرك هذا الخطر، وهم الطائفة المنصورة - كما سماهم النبي صلى الله عليه وسلم - لم تختلف عليهم الحقائق، ولم تبهرجهم المسميات؛ فأنكروا، وأمروا بالمعروف، ونهَوا عن المنكر، وحاربوا فحُوربوا، وقاوموا فقُمعوا؛ فكانت السجون منازل خير الناس.

 

ومن هذا الصراع بين أهل الحق والعلم وبين النخبة العلمانية الحاكمة، ومع هذا التفلت من التكاليف الشرعية التي كانت تعيشه العامة، نشأ واقع للأمة الإسلامية لم أرَ له نظيرًا في تاريخ المسلمين، ونشأ كذلك نوع من المشايخ لم يكن معروفًا من قبل: إنهم المشايخ العلمانيون، وهم القسم الرابع.

 

طبيعة العلمانية تتصادم مع الإسلام؛ لأنها تلغي هيمنة القرآن، ومصدريته في التشريع، وتجعل الحُكم حقًّا للخلق دون الخالق.

 

فالله عز وجل يقول: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48].

 

وقال: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49].

 

والعلمانية تفتن الناس عن كل ما أنزل الله، وليس عن بعضه.

 

فإذا كانت العلمانية بهذه الصورة، فكيف يمكن أن يكون هناك علماء ومشايخ علمانيون؟ وكيف يجتمع الضدان؟

 

ثمت أمور كثيرة دعت لظهور مثل هذا التيار المشيخي، المهادن للعلمانية، المعادي للطائفة المنصورة، ولكن قبل أن أذكر هذه الأسباب والجذور الفكرية لهذا التيار من المشايخ؛ (العلماشيخي)، لا بد أن أقول: إن هذا التيار يلتئم تحته صنفان من الناس متضادان مختلفان، أحدهما ينتسب إلى من مضى من السلف، والآخر يدعي التنوير والتجديد، وسأعرِّف بهؤلاء وهؤلاء من خلال سيماهم ولحنهم في القول.

 

أما الأولون فيعرفون بما يلي:

أولًا - يُكثر هؤلاء المشايخ من الخطاب التبريري للهيمنة العلمانية، ومن الدعوة لإحسان الظن بأقطابها الدعاة إليها، والتماس الأعذار لهم.

 

فهم رحماء على أهل العلمانية، غلاظ على من خالفهم من أهل العلم.

 

ثانيًا - مِن ديدنهم التخذيلُ عن نصرة المسلمين هنا أو هناك، وَلَيُّ النص الشرعي لتبرير هذا التخاذل.

 

ثالثًا - التجافي عن الحديث السياسي، والبعد عنه، فتجد منهم من يستعيذ من السياسة، وتجد منهم من يطعن في أهل العلم إذا تكلم في مسألة من السياسة، مما تهم أمر العامة، ولسان حاله يقول: دع السياسة لأهلها، وليت شعري ماذا ترك بعد هذه القالة للعلمانيين!

 

رابعًا - إضفاء الصفة الشرعية على بعض مخلفات المحتل الأوربي.

 

مِن ذلك: استحداث أوثان يجمعون الأمة عليها، ومِن ثَم تقديس هذه الأوثان، وإظهارها وكأنها مِن مسلمات الدين، ثم تأتي المرحلة الأخطر، وهي الاستعاضة بهذه الأوثان عن حقائق الإسلام، واستبدال السنة بالبدعة والهدى بالضلالة.

 

كالدعوة إلى رابطة الولاء على الوطن، أو الجنسية، أو الإقليم، وتكييف الدين على قوالب الحدود الوهمية التي صنعها المحتل، واشتهرت باسم حدود سايس بيكو.

 

كان بعض المؤرخين من المستشرقين يقول: إن أوروبا كانت تخشى من الرجل المريض - يريد الدولة العثمانية رغم ضعفها - لأن وراءها ثلاثمائة مليون مسلم، وهذا ما يبرر لك حرصهم على تفتيت الأمة الإسلامية، ثم رعاية هذا التفتيت عبر المشايخ العلمانيين.

 

فأصبحت الحدود الداخلية مسألة ولاء وبراء لدى هذا التيار (العلماشيخي).

 

خامسًا - محاربة أي جماعة تدعو إلى تطبيق حكم الله في أي مصرٍ من أمصار المسلمين، وانتقاده، والطعن فيه، ليس لأجل إصلاحه، بل للإيقاع به.

 

فإذا اتفق أن حُورب هذا البلد مِن قِبل الصليبين يصب هؤلاء جام غضبهم ومكتل لومهم على المسلمين، ويعتذرون عن الصليبين، ويوجدون لهم المبررات.

 

وهذا نَفَسهم دائمًا، وتلك هِجِّيراهم، والشنشنة العظمى التي بها يعرفون.

 

سادسًا - موالاة المستعمر السابق لبلاد المسلمين، موالاة باطنة، وإن كان ظاهر خطابهم النهي عن موالاة الكافرين، إلا أن من صفات هذا التيار (العلماشيخي) المخالفة بين القول والعمل.

 

وفي تبريرهم لهذا الأمر ينيطون الحكم بالتعقل والعقلانية والحكمة؛ فالعقل والحكمة يقتضيان مهادنة المستعمر وعدم استعدائه؛ ولذلك تجد بينهم وبين الجهاد عداوة لا صلح بعدها.

 

سابعًا - الشدة والغلظة على المؤمنين، وعلى الدعاة والعلماء خاصة، وعلى القائمين منهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد دون غيرهم.

 

فقد تخلَّق أهل هذا التيار بنقيض ما أمر الله به المؤمن من التعامل مع الكافرين والمؤمنين؛ حيث أمر الله عز وجل بلين الجانب، وخفض الجناح للمؤمنين، والشدة والغلظة على الكافرين؛ كما قال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].

 

وليس لأحد أن يحمل كلامي هذا على التحامل أو القياس البعيد؛ فإن الله عز وجل قد حذر من هذا الأمر - أعني قلب المفاهيم - وأخبر أنه حين تنقلب المفاهيم في التعامل بين المسلمين إلى ما ذكرنا، فإن أوان الاستبدال قد حان، ووقت التغيير قد وجب؛ فإن الله عز وجل قد خاطب المؤمنين بأكثرَ من ذلك فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ﴾ [المائدة: 54].

 

وليس الارتداد المعنيُّ في هذا الآية الردةَ إلى الكفر فحسب، بل ما دون ذلك من الارتداد عن الحق مطلقًا.

 

فقد روى ابن جرير بإسناده عن محمد بن كعب: أن عمر بن عبدالعزيز أرسل إليه يومًا، وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال: يا أبا حمزة، آية أسهرتني البارحة! قال محمدٌ: وما هي أيها الأمير؟ قال: قول الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ﴾ [المائدة: 54] حتى بلغ: ﴿ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ﴾ [المائدة: 54]،فقال محمد: أيها الأمير، إنما عنى الله بالذين آمنوا الولاةَ من قريش، من يرتد عن الحق.

 

قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن قدرته العظيمة: إن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة، وأقوم سبيلًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]، وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾ [النساء: 133]، وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [إبراهيم: 19، 20]؛ أي: بممتنع ولا صعب.

 

وقال تعالى ها هنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ﴾ [المائدة: 54]؛ أي: يرجع عن الحق إلى الباطل...

 

وقوله تعالى: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54] هذه صفات المؤمنين الكُمَّلِ، أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خَصمه وعدوه؛ كما قال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "الضَّحُوك القَتَّال"؛ فهو ضحوكٌ لأوليائه، قَتَّال لأعدائه.

 

وقوله: ﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ﴾ [المائدة: 54]؛ أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لا يردهم عن ذلك رادٌّ، ولا يصدهم عنه صادٌّ، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل...؛ اهـ.

 

ثامنًا - احتكار الحق ومنهج السلف في عباءة شيخ، أو ثنايا مسألة، أو موالاة حاكم، يمتحنون الناس في ذلك؛ فمن وافقهم على ما عندهم فهو على الحق، ومن خالفهم نبزوه بأسوأ الأوصاف؛ فلا يتورعون أن يصفوهم بالخوارج، أو الباطنية، أو التكفير، أو ما شاؤوا من أوصاف وألقاب.

 

وهذا الداء قديم، قد اشتكاه الأئمة قبلنا، واكتوَوْا بناره، لكنه لم يثبط عزائمهم، ولم يَحُلْ بينهم وبين القيام بأمر الله.

 

ولعل الإمام الشاطبي يتحدث على لسان الجميع - في مقولته المشهورة - حين قال: فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس، فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل، وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال، عائذًا بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد وأُعد من المؤالفين، لا من المخالفين، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئًا، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور؛ فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليَّ الملامة، وفَوَّق إليَّ العتابُ سهامَه، ونُسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة، وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجًا، لوجدت، غير أن ضِيق العَطَن، والبُعد عن أهل الفطن، رقى بي مرتقى صعبًا، وضيق عليًّ مجالًا رحبًا، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفت السلف الأول، وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أو خرَّجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادةً ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة.

 

فتارة نُسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزي إليَّ بعض الناس؛ بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.

 

وتارة نُسبت إلى الرفض وبُغض الصحابة رضي الله عنهم؛ بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم - في الخطبة على الخصوص؛ إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب.

 

وتارة أُضيفَ إليَّ القولُ بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدَثٌ، لم يكن عليه من تقدَّم.

 

وتارة نُسبت إلى معاداة أولياء الله؛ وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق.

 

وتارة نُسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناءً منهم على أن الجماعة التي أُمِر باتباعها، وهي الناجية، ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان.

 

فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبدالرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه؛ إذ حكى عن نفسه فقال: عجبتُ من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين؛ فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقًا أو مخالفًا دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك، كما يفعله أهل هذا الزمان، سماني موافقًا، وإن وقفت في حرف من قوله، أو في شيء من فعله، سماني مخالفًا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك واردٌ، سماني خارجيًّا، وإن قرأت عليه حديثًا في التوحيد، سماني مشبِّهًا، وإن كان في الرؤية، سماني سالميًّا، وإن كان في الإيمان، سماني مرجئيًّا، وإن كان في الأعمال، سماني قدريًّا، وإن كان في المعرفة، سماني كرَّاميًّا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر، سماني ناصبيًّا، وإن كان في فضائل أهل البيت، سماني رافضيًّا، وإن سكتُّ عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما، سماني ظاهريًّا، وإن أجبت بغيرهما، سماني باطنيًّا، وإن أجبت بتأويل، سماني أشعريًّا، وإن جحدتهما، سماني معتزليًّا، وإن كان في السنن، مثل القراءة، سماني شفعويًّا، وإن كان في القنوت، سماني حنفيًّا، وإن كان في القرآن، سماني حنبليًّا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار؛ إذ ليس في الحكم والحديث محاباة، قالوا: طعن في تزكيتهم، ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون عليَّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم، عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم، أسخطتُ اللهَ تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئًا، وإني مستمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو، وهو الغفور الرحيم.

 

هذا تمام الحكاية، فكأنه - رحمه الله - تكلم على لسان الجميع.

 

فقلما تجد عالِمًا مشهورًا، أو فاضلًا مذكورًا إلا وقد نُبِزَ بهذه الأمور أو بعضها؛ لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك، حُمِل على صاحب السنة أنه غير صاحبها، ورُجِع بالتشنيع عليه، والتقبيح لقوله وفعله، حتى ينسب هذه المناسب.

 

وقد نُقل عن سيد العباد بعد الصحابة أويس القرني: أنه قال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدَعَا للمؤمن صديقًا، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعوانًا من الفاسقين، حتى والله لقد رمَوْني بالعظائم، وايم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه.

 

فمن هذا الباب يرجع الإسلام غريبًا كما بدأ؛ لأن المؤالف فيه على وصفه الأول قليل، فصار المخالف هو الكثير؛ فاندرَسْت رسومُ السنَّة، حتى مدت البدع أعناقها، فأشكل مرماها على الجمهور؛ فظهر مصداقُ الحديث الصحيح.. اهـ.

 

وأما الفريق الآخر من المشايخ العلمانيين، فإنهم يشتركون مع الأولين في بعض المقالات، من حيث نتائجها، لا من حيث ألفاظها، ولهم مقالات يختصون بها، منها:

أولًا - يدَّعون أنهم يتحررون من القيود، ويطلقون زمام العقل، ويحاولون الدفاع عن الإسلام.

 

ثانيًا - يطعنون في مسلمات الأمة، وثوابتها، من باب الحرص عليها، والشفقة على عقيدتها، بزعمهم، ويستدلون على ذلك بأفعال بعض العلماء الكبار، فتراهم مثلًا يطعنون في أحاديثَ من صحيح البخاري، بدعوى أنها لا تلائم العصر، ويستدلون بنقد بعض الأئمة للبخاري ومسلم وغيرهما.

 

ثالثًا - دعواهم الكبرى هي التجديد، تجديد علوم الدين المختلفة، ويهوِّلون عليك بألفاظ ينتقونها، وجُمَل يزيِّنونها، ولهم في ذلك كتب ورسائل، عناوينها ضخمة ترهب القارئ، وتربك المتعلم، ولكنها دعاوى جوفاء، لا ينطلي بَهْرَجُها إلا على من لم يباشر العلم ولم يخالط العلماء.

 

رابعًا - تحالفهم مع القوى المخالفة للإسلام، ونفورهم من القوى المسلمة الداعية لتحكيم شرع الله عز وجل في الأرض.

 

فيتحالفون مع التيارات العلمانية، وينفِّرون من إخوانهم في الدين والعقيدة، حجتهم التألُّف، والوسطية، والنفور من التشدد؛ ولذلك تراهم في المؤتمرات جنبًا إلى جنب مع العلمانيين والعلمانيات.

 

هذا، ويمكن أن ألخص أسباب نشوء هذا التيار (العلماشيخي) من هذين الفريقين في عدة أسباب:

أولها - الواقع المعاصر؛ فإن واقع الأمة المنهزم عسكريًّا وثقافيًّا، ثم نشأة هؤلاء في هذا الواقع دهرًا من الزمن حتى أَلِفوه، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت أحوالهم معه - جعلتهم يطأطئون رؤوسهم، ويسيرون وهم كذلك مطأطئون.

 

ولذلك تجد في كلامهم الاستسلام لهذا الواقع، بل والدعاء بألا يتغير عليهم ما هم فيه، وكأنهم يعيشون في عصر الخلافة الراشدة!

 

ثانيًا - الهزيمة النفسية، وهذا مترتب على ما قبله.

 

ثالثًا - دخول الوهن إلى قلوب هؤلاء.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا، وكراهية الموت)).

 

هذه الأسباب وغيرها لا تعدو أن تكون ثانوية، ولكن كان لها تأثير قوي على سلوكيات هؤلاء الدعوية، ومواقفهم العلمية، وما هذا إلا لأنها تتوافق مع أصل فكري مكين لديهم، هذا الأصل هو الموجِّهُ لهم.

 

أما الفريق الأول: فالباعث على ما ترى من أحوالهم: الفكر الإرجائي.

وأما الفريق الثاني: فقد أُتِيَ من قِبَل ضعف العقيدة، ولا سيما عقيدة الولاء والبراء.

 

الإرجاء بدعة ظهرت في فكر الأمة الإسلامية، تتلخص بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر معصية.

 

وإنما سمَّوْه إرجاءً؛ لأنه يؤخر العمل، ويخرجه من تعريف الإيمان.

 

لا يقول هؤلاء المشايخ في خطابهم الديني: إن العمل ليس ركنًا في الإيمان، بل هم يأنفون من ذلك، ويحاربونه في دروسهم وأقوالهم، ولكنهم يقررون ذلك بأفعالهم وأعمالهم؛ فأصبحت العقيدة عندهم لا تعدو أن تكون أقوالًا ومسائل يحفظونها، ولا تمتُّ إلى واقعهم بصلة.

 

الفكر الإرجائي يوجِدُ المبرر الذي يفزع إليه علماء هذا التيار؛ للتخلص من ثقل التكاليف الشرعية الثقيلة؛ كما وصفها الله عز وجل في قوله: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]، الثقل إنما هو بالعمل به.

 

قال الحسن البصري: العمل به، إن الرجل لَيَهُذُّ السورة، ولكن العمل به ثقيل، وقال قتادة: ثقيل والله فرائضُه وحدودُه؛ أخرجه ابن جرير.

 

في الفكر الإرجائي الراحة من هذا الثقل، والمبرر للتخلي عن القيام بالقسط، الذي هو الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].

 

قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [الحديد: 25]؛ أي: بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات، ﴿ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ﴾ [الحديد: 25]، وهو: النقل المصدق، ﴿ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الحديد: 25] وهو: العدل، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة...

 

ولهذا قال في هذه الآية: ﴿ لِيَقُومَ النَّاسُ ﴾ [الحديد: 25]؛ أي: بالحقِّ والعدل، وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتُهم فيما أمروا به؛ فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق؛ كما قال: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الإخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي..

 

وقوله: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ [الحديد: 25]؛ أي: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السورُ المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وتبيان ودلائل، فلما قامت الحجة على مَن خالف، شرع الله الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضربِ الرقاب والهامِ لمن خالف القرآن، وكذب به وعانده.

 

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، من حديث عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي المنيب الجرشي الشامي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُعِثت بالسيف بين يدي الساعة؛ حتى يُعبَدَ اللهُ وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعِل الذِّلة والصَّغار على مَن خالف أمري، ومَن تشبَّه بقوم فهو منهم)).

 

ولهذا قال تعالى: ﴿ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ [الحديد: 25] يعني: السلاح؛ كالسيوف، والحِراب، والسنان، والنصال، والدروع، ونحوها، ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25]؛ أي: في معايشهم.

 

وقوله: ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ﴾ [الحديد: 25]؛ أي: مَن نيَّتُه في حمل السلاح نصرةُ الله ورسله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]؛ أي: هو قوي عزيز، ينصر مَن نصره، مِن غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد؛ ليبلوَ بعضكم ببعض؛ اهـ.

 

فهذه الآية العظيمة لخصت الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وبينت مراد الله عز وجل من خلقه؛ فأهل الحق والعلم يأخذون بطرفي الآية.

 

يأخذون بالقسط وبيان الحق؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذون بالحديد والبأس الشديد؛ كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، لمن عصى واستكبر، وفي هذا المنهج امتثال للآية الكريم، واقتداء بالمصطفى الهادي صلى الله عليه وسلم.

 

وأما أصحاب هذا التيار (العلماشيخي)، فإنهم أعداء الشق الثاني من الآية، ولا يكادون يذكرونه إلا انتقاصًا وامتعاضًا واشمئزازًا.

 

والسبب أن العمل يكمُنُ في الشق الثاني؛ فالشق الثاني أشق، وهم في الأصل استقر الإرجاءُ في بواطنهم وبواعثهم.

 

أما الصنف الثاني: فإن انفتاحهم على أهل البدع والعلمانيين هوَّن عليهم أمر العقيدة، وهذا تيار في الأمة قوي ترعاه بعض المؤسسات الدينية؛ فالعقيدة عندهم ثانوية؛ ولذلك يَهْوُون في هذه المزالق.

 

مكث النبي صلى الله عليه وسلم جل حياته وهو يقرر العقيدة الإسلامية في مكة المكرمة، ويؤكد على ثوابتها، ويخوض الابتلاءات من أجلها، ثم لما هاجر إلى المدينة، كانت حقائق هذه العقيدة بارزة في التشريعات والقوانين التي يسُوس بها أمته.

 

وهؤلاء المعاصرون من المشايخ العلمانيين لا ثوابت لديهم، بل كل شيء قابل للتفاوض والتقارب، حتى مع اليهود والنصارى، لا سيما في الولاء والبراء، والحُكم بغير ما أنزل الله.

 

يقول الله عز وجل:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].

 

الموالاة تعني التبعية؛ فمن والى قومًا فهو منهم.

 

قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ﴾ [المائدة: 51]؛ أي: يعضدهم على المسلمين، ﴿ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51]، بيَّن تعالى أن حكمه كحكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابنُ أُبَيٍّ، ثم هذا الحكم باقٍ إلى يوم القيامة في قطع الموالاة، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ [هود: 113]، وقال تعالى في "آل عمران": ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 28]، وقال تعالى: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118].

 

وقيل: إن معنى ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [المائدة: 51]؛ أي: في النصرة.

 

﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51] شرطٌ وجوابه؛ أي: لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم؛ أي: من أصحابهم؛ اهـ.

 

وقال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28]: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء؛ اهـ.

 

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].

 

أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار..وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره...نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم.

 

ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك، فلا ينبغي لك أن تحادثه، ثم بيَّن تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة؛ فقال: ﴿ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ﴾ [آل عمران: 118]، يقول: فسادًا.

 

يعني: لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني: أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر، فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه...

 

وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميًّا، فكتب إليه عمر يُعنِّفُه، وتلا عليه هذه الآية.

 

وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب، فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد، فقال: لِمَ؟ أجُنُبٌ هو؟ قال: إنه نصراني، فانتهره، وقال: لا تُدْنِهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خوَّنهم الله..

 

وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ها هنا رجلًا من نصارى الحيرة، لا أحد أكتب منه، ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.

 

فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.

 

قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان، باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسوَّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء؛ انتهى كلامه رحمه الله، فكيف لو رأى ما أحدث أهل زماننا من موالاة من لا يؤمن بشريعة الله ورسوله.

 

إن هذا التيار (العلماشيخي) من أسباب تخلُّف النهوض الفكري في الأمة الإسلامية، ومن عوامل خِذلانها، ولن تستطيع الأمة النهوض بدينها والقيام بالقسط ما دام هذا التيار ظاهرًا، يضرب بأطنابه، ويصد الناس عن العمل، وعن الجهاد، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُهوِّن عليها أمرَ عقيدتها.

 

إن واجب العلماء الربانيين في التصدي لهذا التيار كبير؛ فقد أظهرت ثورة الشام - وما قبلها - خطر الدور الذي يقوم به هؤلاء على الأمة، وعظيم إرجافهم الذي لا ينتهي، حتى إنهم كانوا كما قال أبو الفضل الهَمْداني: مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث أشد من الملحدين، قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل؛ فهم كأهل بلد سعَوْا في فساد أحواله، والملحدون كالمحاصرين من خارج؛ فالدخلاء يفتحون الحصن؛ فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له؛ اهـ.

 

وقانا الله شرهم، وكف عن المسلمين عبثهم، وردهم إلى دينه ردًّا جميلًا.

 

فيا لله كم لقي منهم المخلصون! وكم آذَوْا من عبادٍ لله مقربين! والواجب على أهل الحق المضي قُدمًا في دعوتهم، وعدم الالتفات إلى ما يقول هؤلاء، وهجرهم هجرًا جميلًا، ولو أن كل واحد من هؤلاء ترك الحق لمحاباته، أو لاتقاء لسانه، لما بقي للدين قائم، ولكن الله عز وجل خاذل هؤلاء ولا ريب، وناصر دينه وعباده الصالحين.

إلا أن التحذير من هؤلاء واجب شرعي؛ حتى تُتقى شرورهم، ويدفع عن المسلمين ضررهم، والله الموفق.