شبهاتٌ واعتراضاتٌ على إقرار "القانون العربي الموحّد" في محاكم سورية والإجابةُ عنها

إعداد المكتب العلمي بهيئة الشام الإسلامية

شبهاتٌ واعتراضاتٌ على إقرار
"القانون العربي الموحّد" في محاكم سورية والإجابةُ عنها


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين... أمّا بعدُ:
فمنذ أنْ طُرح "القانون العربي الموحد" في الساحة القضائية في سورية والنّقاشُ والجدال دائرٌ حولَه بين القَبول والرّدِّ، فصدرت حوله عدّةُ دراساتٍ، منها:
ما أصدره المكتبُ العلمي في هيئة الشّام الإسلامية بعنوان (القانون العربي الموحّد.. دراسة وتقييم)(1).
ثم تلته دراسةُ "مركز شامنا" بعنوان (القانون العربي الموحّد دراسة نقدية)(2).
ثم صدرت دراسة للمجلس الإسلامي السوري بعنوان (القانون العربي الموحّد)(3).
وتوصّلت هذه الدّراسات إلى نتائجَ عديدةٍ(4)، ومِن أهمِّها:
1- أنّ الأصلَ في هذا القانون والمعتمَدَ الأساسَ الذي بُنيت عليه موادُّه هو: الشّريعة الإسلامية بمذاهبها الفقهية الأربعة، مع وجود عددٍ يسيرٍ مِن المخالفات، والتي تتمثّل في:
- باب التّأمين التّجاري المخالف للرّاجح مِن أقوال الفقهاء.
- وباب التّعزيرات الذي تضمّن في عددٍ من مواده حصراً للقاضي في عقوباتٍ معيّنة، أو مبالغةً في تقدير بعض العقوبات(5).
2- التّوصيةُ باعتماد القانون في المحاكم الشّرعية في المناطق المحرَّرة، إلى حينِ استقرارِ الأحوالِ، وتشكيلِ سُلطةٍ قضائيةٍ على مستوى سورية، وأنّ هذا القانون أفضلُ البدائل المتاحة حاليًا، مع مراعاة الموادّ المخالفة لنصوصِ الكتابِ والسُّنةِ أو الإجماعِ مخالفةً صريحة ، وهي محدودةٌ جدًا إنْ وُجدت.
وما إن بدأ عددٌ مِن المحاكم في تطبيق هذا القانون -وبعضُها كان سبّاقًا لتطبيقه قبل صدور هذه الدّراسات- حتى أُثيرت شبهاتٌ واعتراضاتٌ تطعنُ في هذا القانون، وفيمَن يطبّقه، وترميه بالتُّهم الكِبار، فرغب إلينا عددٌ مِن إخواننا أنْ نجيب عن هذه الشُّبهات، ونوضّحَ القولَ في هذه الطُّعون(6)، فاستعنّا بالله على كتابة هذه الورقات، سائلين المولى أنْ تكون عونًا لإخواننا القضاة والمهتمّين بالشّأن القضائي.
علمًا أنَّنا سنقتصر فيها على الإجابة عن هذه الشبهات والاعتراضات، دون التّوسع في الحديث عن "القانون العربي الموحّد" والمسائل المتصلة به ممّا تناولته الدّراسات المشار إليها؛ لذا فإنَّ قراءة هذه الأوراق لا تكفي عن الاطلاع على  تفاصيل تلك الدراسات..
ويُلحظ أنّ غالبَ الاعتراضات والشّبهات يعود منشؤها إلى أحدِ ثلاثةِ أمورٍ:
1- عدم تحرير معاني المصطلحات الحادثة وتطبيقاتها المختلفة، وإعطاء حكم عامٍّ عليها دون مراعاة قواعد التّعامل والحكم على هذه المصطلحات مِن: كيفية التّعامل مع الألفاظ المجملة، ومتى يكون هناك مشاحة في الاصطلاح، ومتى لا يكون، والحالات التي يُنظر فيها للمعاني دون الألفاظ، كما هو الحال في مصطلحات: القانون، والقانون المدني، وتقسيم المخالفات إلى جرائم وجُنح وجنايات، كما سيأتي.
2- الحكم على القانون بناءً على افتراضاتٍ باتت مسلّماتٍ لا تقبل النّقاش ولا النّظر عند أصحابها، لمجرّد التعوُّد أو الانتماء، مع أنَّه ليس عليها دليلٌ شرعيٌّ صحيحٌ، أو تحقيق لمناط التّحريم والمنع،  كما في الاعتراض على القانون لأنه مِن وضع جامعة الدّول العربية.
3- الحكم على القانون بناءً على تصوّراتٍ مسبقةٍ متخيَّلة قبل الوقوف على حقيقة الأمر؛ لذلك فإنَّ غالبَ مَن طعن في "القانون العربي الموحّد" أو قال بتحريمه لم يطّلع على كتبه أو مواده، فجاءت العديد مِن الاعتراضاتِ مبنيةً على خيالاتٍ لا صلةَ لها بواقع القانون. 


الاعتراضات والشبهات والإجابة عنها

الاعتراض الأول: تسمية هذه الأحكام بــ (القانون)، والقانونُ ما وُضع على خلاف الشّريعة، فيكون القانون الموحّدُ وضعيّاً لا يجوز الأخذُ به.
ويجاب عنه بما يلي:
الحديثُ في استخدامِ كلمة (قانون) ابتداءً له وجهٌ؛ فالكلمةُ في أصلها ليست عربيةً، وكان معناها الأصلي (المسطرة)، ثم أصبحت تعني (القاعدة الكلية) التي يُتعرّف منها أحكامُ جزئياتها.
قال الزَّبيدي: "والقانونُ: مِقْياسُ كلِّ شيءٍ وطَريقُه، جمعُه قوانينُ؛ قيلَ: رُوميَّةٌ؛ وقيل: فارسيّةٌ. وَفِي الـمُحْكَم: أُراها دَخِيلةً.
وفي الاصطلاحِ: أمرٌ كلّيٌّ ينطبقُ على جميع جزئياتِه التي تتعرّفُ أحكامها منه"(7).
وحديثًا: استُعمل هذا المصطلح في الغرب بمعنى التّشريع، ثمّ تُوِّسع في استعماله ليعبّر عن مجموعة القواعد والأحكام التي يتّبعها النّاسُ في علاقاتهم المختلفة، وتنفِّذها الدّولةُ أو الدُّول بواسطة المحاكم(8).
وغَلب استعمالُ هذا المصطلح في جانب القوانين الوضعية بحيث إذا ذُكر انصرف إليها، بل إنَّ هذا المصطلح أصبح قسيمًا ومقابلاً للحكم الشّرعي خاصّةً عند المقابلة، فظهرت في المؤسساتِ التعليمية دراساتٌ ومقارنات للأحكام (بين القانون والفقه الإسلامي).
كما أنَّه استُخدم في باب القضاء بمعنى النّظام أو القاعدة الكلية، كما يظهر في جانب القوانين الإجرائية.
حكم استعمال مصطلح (القانون) في الدّلالة على الأنظمة والتّشريعات القضائية:
ما كان مِن باب التّنظيمات الإدارية، وما ليس فيه نصٌّ شرعي: فلا مانعَ مِن استخدام مصطلحِ القانون فيه، إلى جانب مصطلحاتٍ أخرى كالأنظمة، وغيرها.
أمّا ما ورد فيه نصٌ أو حكمٌ شرعي فالأولى أن يُعبّر عنه بمسمياتٍ أخرى ليس فيها لبسٌ، مثل: مدونة الأحكام القضائية، أو الأحكام القضائية، ونحو ذلك.
لكن بما أنّ الاستعمال قد أصبح شائعًا بالفعل فلا مانع مِن استخدامه إذا وضح المقصود، وبُيّن المراد على وجهٍ لا لبس فيه، فيكون المرادُ بالقانونِ النّظامَ الذي ينبغي أو يلزم اتباعُه سواءٌ كان مأخوذاً من أدلة الشريعة، أو كان موافقاً لقواعدها ومقاصدها وإن لم يرد به دليلٌ.
والذي جرى في "القانون العربي الموحد" استعمالُ كلمة قانون في الأمرين كليهما: الأحكام المستمدة مِن الشرع ونصوصه وقواعده، والأحكام التنظيمية الإدارية، فالأمرُ فيه يسيرٌ ما دمنا قد علمنا المراد، على أنّ الأولى استعمالُ لفظٍ آخر لا يُحدث إيهاماً، ولا اعتراضاً.
وهذا مأخوذٌ مِن المنهج الشّرعي في التّعامل مع الألفاظ المجملة التي تحتوي على حقٍّ وباطل، حيث يجب الاستفصال مِن أصحابها وقصدهم بها؛ فإن دلَّت على معنى حقٍّ قبلناه، وإن دلّت على معنى باطلٍ رفضناه.

قال ابن تيمية رحمه الله: "ما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحدٍ، بل ولا له أنْ يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مرادَه. فإن أراد حقّاً قُبل، وإن أراد باطلا رُدَّ، وإن اشتمل كلامُه على حقٍّ وباطلٍ لم يُقبل مطلقاً، ولم يُردَّ جميع معناه، بل يوقف اللّفظ، ويفسّر المعنى"(9).
وممّا يدلّ على التّخفيف في استعمال هذا المصطلح اشتقاقُ مصطلحٍ آخر منه، وهو (التّقنين)، الذي يعني صياغةَ الأحكامِ على شكل موادّ، وجريانُ عملِ أهل العلم على تداوله واستخدامه، كما سيأتي(10).
والذي يحدّد قبولَ هذه المواد مِن عدمها هو موافقتِها للشّريعة، وعدم مخالفة نصوصها، لا مجرّدُ اسمها؛ إذ العبرةُ بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، وقد تقرر أنّ المسمّيات لا تغيّر مِن الحقائق شيئًا، والتّسميةُ بالقانون لا يلزم منه أن يكون وضعياً مخالفاً للشّريعةِ لمجرد الاسم.

*                 *                *

الاعتراض الثاني: تسمية بعض أجزاء القانون بـ "المدني" مخالفٌ للشّريعة؛ لأنّ لفظ المدني يتضمّن العلمانية.
ويجاب عنه بما يلي:
لفظ "القانون المدني" يعود إلى العهد الروماني، واستُخدم في الثقافات واللغات الأوربية في مقابل التشريعات الكنسية، وما زال كذلك فيها؛ إلا أنه أصبح عند القانونيين -ومنهم قانونيو الدول الإسلامية- يطلق -إلى جانب ذلك- على نوعٍ مِن القوانين التي تقابل القوانين العامّة، حيث يُقسِّم القانونيون القانون إلى قسمين: عام ، وخاص.
أولاً: القانون العام:
ويقصدون به: مجموعة القواعد القانونية التي تنظّم العلاقة بين طرفين أحدهما أو كلاهما يملك السّلطة العامة أو يتصرف بها.
ويتضمن هذا القسم الفروع التالية:
1- القانون الدستوري. 2- القانون المالي. 3- القانون الإداري.
ثانيًا: القانون الخاص:
ويقصدون به: مجموع القواعد القانونية التي تنظّم العلاقات التي تنشأ بين أشخاصٍ لا يعمل أحدُهم بصفته صاحبَ سلطة، ويحتوي هذا القانون على الفروع التّالية:
1- القانون المدني: وهو القانون الذي ينظّم الروابط القانونية المالية - عدا ما يتعلق منها بالتجارة؛ فإنها تتبع القانون التّجاري- والشّخصية الخاصة بعلاقات الأفراد بعضهم ببعض.
وهو بهذا التعريف ينظم نوعين مِن العلاقات الخاصة للأفراد: المعاملات المالية، والأحوال الشخصية. ويتبع هذا القانون حقوقٌ فرعية كثيرة منها: قانون الإثبات أو قانون البيّنات، والحقوق العائلية، وقانون الجنسية، وقانون حماية الملكية الأدبية والفنّية، والقانون العقاري، والقانون الزراعي، وقانون التّأمين، وقانون الاستهلاك وحماية المستهلك، وقانون العقود والعقود المسماة.
2- القانون التجاري.
3- قانون المرافعات المدنية والتجارية.

حكم استعمال لفظ (القانون المدني):
ما سبق أن قيل في مصطلح القانون يقال في مصطلح القانون المدني؛ لأنّ سبب الخلاف راجعٌ إلى الاختلاف في المصطلحات والمسميات؛ فكلمةُ (المدني) استُعملت في معانٍ متعدّدة، ولا يلزم مِن تضمّن بعضِها للباطل أن يتضمّنها كلّ اصطلاحٍ أو استعمال، ولا مشاحّة في الاصطلاح ما لم يتضمّن إحقاق باطل، أو إبطال حقّ.

 

*                 *                *

 

الاعتراض الثالث: أنَّ هذا القانون مِن وضع الجامعة العربية:
فهذا القانونُ مِن وضع جامعة الدول العربية التي تحكُم العديدُ مِن دولها بالقانون الوضعي المخالف للشريعة، وكثيرٌ منها تمارس الظلم والإجحاف في محاكمها، فكيف نأخذ هذا القانون الذي وضعته؟
ويجاب عن ذلك بما يلي:
أنَّ جامعة الدول العربية، ووزراء العدل العرب ليس لهم في هذا القانون إلا التّنسيق والإشراف العام، ثم التّصويت على هذه القوانين وإقرارها، أمّا الذي تولى اختيار المواد، وتصنيفها، وكتابتها فهم شرعيون، وبعضهم مِن كبار علماء العالم الإسلامي، كالشيخ مصطفى الزرقا الذي كان رئيسًا للجنة القانون، ومشاركًا في وضع بعض مواده، بالإضافة لعددٍ مِن الحقوقيين والقانونيين الذين كان لهم دورٌ في صياغات المواد وتقنينها.
فعملُ جامعة الدول العربية ووزراء العدل في ذلك شبيهٌ بإشراف وزارات الإعلام على طباعة الكتب الشّرعية، ومنها المصاحف، وإجازتها للنّشر والتوزيع.
وقد أُقرَّ هذا القانون على أن يكون قانونًا استرشاديًا غير ملزم؛ لذا لم يلق اعتراضًا عليه، والعديد مِن الدول لم ترتض هذا القانون، ولم تطبق كثيرًا مِن فروعه، بل طبقت نسخًا معدلةً مِن هذا القانون بزيادات أو تعديلات بمواد وضعية.
ومع ذلك نقول: إنّ معيار القَبول والرد هو موافقةُ الشرع أو مخالفته، وليس المعتبرُ في ذلك صفةَ الجهة التي أصدرته؛ فإنَّ مِن منهج أهل السنة والجماعة أنّ الحاكم الظالم إذا أمر بما وافق الشّرع أطيع، كأمرهم بالصلاة، والزكاة، وغيرها، والأمرُ بالحكم والقضاء بين الناس بما يوافق الشرع هو مِن هذا الباب، فالمؤمنُ يقبل الحقّ والخيرَ ممّن جاء به، وقد تعلم ابنُ آدم الأول مِن الغراب، وقَبل النبي  الحقّ من بعضُ اليهود، بل قد تعلم أبو هريرة مِن الشّيطان، وأقرّه النبي وقال له: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ).

*                 *                *

الاعتراض الرابع: الأحكام الإجرائية مأخوذة مِن القوانين الوضعية:
فالأحكامُ الإجرائية والتي تمثّل جزءًا كبيرًا مِن القانون الموحّد مأخوذةٌ مِن القوانين الوضعية، وهذا لا يجوز.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
ينقسم القانون العربي الموحد مِن حيث كتبه ومواده إلى قسمين:
الأولالكتب الموضوعية.
وهي: الكتب التي تضمّ موادّ تحدّد العلاقات والحقوق بين الناس، والعلاقة التبادلية بين الفرد والدّولة، بالإضافة إلى العقوبات لأولئك الذين لا يلتزمون بالقواعد المؤسّسة للقانون.
وهذه المواد إن كانت مستمَدّة مِن الشريعة، أو تندرج تحت قواعدها، أولا تخالفها؛ فهي شرعية، وإن كانت تخالف الشريعة فهي وضعيةٌ لا يجوز الأخذُ بها.
الثاني: الكتب الإجرائية.
وهي: الكتب التي تضمّ مجموعة القواعد التي تنظّم سير الدَّعوى مِن لحظة ابتدائها إلى انتهائها وصولاً إلى إصدار حكم باتٍّ في تلك القضية، وكيفية تنفيذ هذا الحكم، وتنظيم شؤون المحاماة، ونحوها.
ومواد هذه الكتب تنظيميةٌ إداريةٌ بحتة تتعلق بالأساليب والوسائل، ولا يُطلق عليها أنَّها وضعية بمعنى مقابلتها للشرع، بل هي داخلةٌ تحت المصالح المرسلة والسياسة الشرعية في تنظيم شؤون الناس وأمورهم، وتخضع لاجتهاد الزّمان والمكان، ويجوز استفادتها واقتباسها مِن الكفار، كما فعل عمر بن الخطاب في اتخاذ الدواوين، واتفق عليه أئمة المسلمين.
وهي في ذلك كبقية القوانين التي تحفظ المصالح العامة للعباد كقوانين المرور، والصّحة، وغيرها مما لم يرد فيه نصّ شرعي، ولا يخالفُ نصوص الشّريعة وقواعدها.
وإنما يُشترط في هذه القوانين والوسائل ألا تخالف النّصوص الشرعية ، فإذا لم تخالف الشّرعَ، وكانت مِن التنظيمات العامة؛ فإنّها مشروعةٌ مأذونٌ فيها، قال: (الحلالُ ما أحلّ اللهُ في كتابه، والحرامُ ما حرّم اللهُ في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) أخرجه الترمذي وابن ماجه(11).
وقال: (أنتم أعلمُ بأمرِ دنياكم) رواه مسلم(12).
ومِن هنا كانت القاعدةُ العظيمة في الإسلام: "الأصلُ في الأشياء الإباحة".
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: " النّظامُ قسمان: إداري، وشرعي، أمّا الإداري: الذي يُراد به ضبطُ الأمور، وإتقانها على وجهٍ غير مخالفٍ للشّرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالفَ فيه مِن الصّحابة، فمَن بعدهم، وقد عمل عمرُ مِن ذلك أشياءَ كثيرةً ما كانت في زمن النّبي "(13).

*                 *                *

الاعتراض الخامس: أحكام القانون مقنّنة، والتّقنين حرام:
فأحكام القانون العربي الموحّد مقنَّنةٌ، وهذا محرمٌ غير جائز، فلا يحلُّ الأخذُ به أو تطبيقه.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
عُرّف (التقنين) بأنه: "جَمَعُ الأحكام، والقواعدِ التشريعيةِ المتعلِّقة بمجالٍ مِن مجالات العلاقات الاجتماعيّة، وتبويبها، وترتيبها وصياغتها بعبارة آمرة موجزة، واضحة في بنودٍ تسمّى مواد، ذات أرقام متسلسلة، ثم إصدارها في صورة قانونٍ أو نظامٍ تفرضه الدّولة، ويلتزم القضاة بتطبيقه بين النّاس"(14).
والقطعُ بتحريم التّقنين غيرُ صحيح، فقد اختلف أهلُ العلم المعاصرون في هذه المسألة النّازلة، وبيَّنّا في دراسة (القانون العربي الموحد .. دراسة نقدية) نشأة التّقنين وتاريخه، والمجوزين له والمانعين، وأدلة كلٍّ منهما.
والأصلُ الكبير الذي يدور عليه الخلافُ في مسألة التّقنين قبولاً وردّاً هو إلزامُ القاضي بقولٍ واحدٍ يحكم به بحيثُ لا يتجاوزه وإن خالف اجتهادَه.
وقد أجاز التّقنينَ جمهورُ العلماء المعاصرين، ومِن أشهرهم:
الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ علي الطنطاوي، والدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور زكريا البري، والدكتور موسى عبد العزيز موسى، والدكتور محمد سلام مدكور، كما قال به عددٌ مِن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهم: الشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبدالمجيد بن حسن، والشيخ عبدالله خياط، والشيخ عبدالله بن منيع، والشيخ محمد بن جبير، والشيخ راشد بن خنين. وغيرهم كثير مِن علماء العالم الإسلامي.
كما ذهب علماء آخرون إلى منع التقنين والإلزام به، منهم: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز بن باز،  والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ، والشيخ صالح بن محمد اللحيدان، والشيخ صالح بن فوزان الفوزان، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، وغيرهم.
فالمسألة خلافيةٌ، وليس فيها نصٌ قاطع، ولا رأيٌ جازم، أو إجماع، وهي محلُّ بحثٍ ونظر، وهي مِن مسائل الخلاف المعتبر الذي لا يجوز فيه الإنكار.
قال ابنُ تيمية: "وأمّا إذا لم يكن في المسألةِ سنةٌ ولا إجماعٌ، وللاجتهاد فيها مساغٌ، فلا يُنكَر على مَن عمل بها مجتهداً أو مقلداً"(15).
وسواءً كان التّرجيحُ لقول المجوّزين أو المانعين في أصلِ المسالة، فإنَّ تنزيلَ الحكم على واقع الحال لا بدّ أن يكون عن تصوّرٍ حقيقيّ؛ عملاً بالقاعدة الفقهية (الحكمُ على الشيء فرع عن تصوره)(16)، وبالنّظر في واقع الثّورة السّورية فإنّنا نجد أنّ هناك معطياتٍ مرجحة للقول بضرورة التقنين ومنها:
1- ما يعانيه كثيرٌ مِن القضاة مِن ضعف الحصيلة العلمية، وعدم قدرتهم على الاجتهاد في مذاهبهم فضًلا عن النّظر والاجتهاد في المذاهب الأخرى، فهم غيرُ قادرين على الرّجوع إلى نصوص الكتاب والسنّة، وأقوال أهل العلم، وشروحاتهم، ومذاهبهم، ومهما بُذل في تدريبهم ومساعدتهم فإنّ هذا يحتاج لسنواتٍ طويلة مِن الجدّ والجهد، ولن يسدّ الحاتجة والنقص الواقع في ذلك في المنظور القريب.
2- عدمُ توفّر الظّروف التي تساعد القضاةَ على القيام بأعمالهم، وخاصّةً في ظلِّ بدايات تطبيق الشّريعة الإسلامية في الأنظمة الحديثة، بعد عقودٍ من الإقصاء والمحاربة، أو في ظل الحروب كما هو في الواقع السوري.
3- العملُ بهذا القانون لتحقيق الأخذِ بأحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ أولى من تركه ليُفرض غيرُه مما يخالف الشريعة، أو يكون أقلّ موافقةً لها مِن هذا القانون.
4- لو سلَّمنا بالمفاسدِ الـمُترتبة على التَّقنين لكانت المصالحُ العامة التي يُحقِّقُها في هذه الظروف وما يأتي بعدها، والتي تعودُ على الضَّرورياتِ الخمسِ بالعنايةِ والرّعاية والحفظ، سببًا في التَّغاضي عن هذهِ المفاسدِ؛ تطبيقًا لقاعدة: (إذا تعارَضَت مَفسدتانِ رُوعِي أعظمُهما ضررًا بارتكابِ أخفَّهما)(17).
لذا كان الأخذُ بالأحكام الشّرعية الـمُقنَّنة هو الحلَّ الأمثل الذي لا بدّ مِنه لمثل حالنا في سورية، وعلى هذا رأي كثيرٍ مِن القائلين بمنع التّقنين في الأصل!

*                 *                *

الاعتراض السادس: تقسيم الجرائم إلى جُنح وجنايات مِن صنيع القانون الوضعي:
فتقسيمُ المخالفات في القانون الموحّد إلى (جرائم وجُنح وجنايات) تقسيمٌ مصدره القانون الوضعي، وليس الشرع، وهو تقسيمٌ مبتدعٌ يحرم الأخذُ به، بينما التّقسيم الشرعي هو: الحدود، والقصاص، والتعزير.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
إنّ هذا التقسيم للمخالفات تقسيمٌ اصطلاحيٌّ تعريفيٌّ بالنّظر إلى طبيعة الجناية مِن حيث شدَّة المخالفة وقصد فاعلها.
فالقانونيون يقسمون الجريمة إلى ثلاثة أقسام بحسب جسامتها وخطورتها: الجناية والجنحة والمخالفة.
فالجناية تعدُّ أشدَّ وأقسى أنواع الجرائم، والعقوبةُ فيها الأشغال الشاقة المؤبدة، أو الأشغال الشاقة المؤقتة، أو السّجن، وقد تصل العقوبة إلى الإعدام.
ومِن تلك الجرائم: القتل، والسّرقة بالقوة، وسرقة المال العام، وغير ذلك.
وأمّا الجُنحة فهي في العديد مِن النُّظم القانونية الشائعة عملٌ إجرامي أصغر.
وعادةً يُعاقب على الجنح بعقوباتٍ أخفَّ مِن عقوبات الجنايات، وأشدّ مِن العقوبات على المخالفات الإدارية. وفي كثير مِن الأحيان يعاقَب عليها بغراماتٍ مالية.
وقد تشمل الجنح جرائم مثل: السّرقة التي لا تصل للحدّ، والاعتداء اليسير، والسلوك غير المنضبط (كالإزعاج أو المشاجرات)، والتخريب اليسير لممتلكات الغير، والقيادة المتهورة.
وأمّا المخالفات: فهي الجرائم المعاقب عليها بالغرامات المالية القليلة، والحبس القصير الأمد مثل مخالفات المرور وغيرها.
وتختلف هذه الجرائم بطبيعة المحاكم التي تُرفع إليها الدّعاوى.
وهذا التّقسيم الاصطلاحي وإنْ لم يوجد في الشرع، لكنّ الأدلة الشّرعية دلّت على تفاوت الجرائم والمخالفات في عِظم جرمِها، وشدّة العقوبة عليها، وتلك العقوبة تبدأ مِن التّعزير بالكلام والتّوبيخ، ثمّ تزيد حتى تصل إلى القتل.
فالتّقسيمُ الفقهي للجرائم يعتمد على نوعية العقوبة(18):
فالحدود: عقوبةٌ مقدّرة شرعاً في معصيةٍ لتمنع مِن الوقوع في مثلها(19).
والقِصاص: أنْ يُفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه(20).
والتّعزير: عقوبة غير مقدرة مشروعة في كلّ معصية لا حدَّ فيها ولا قصاص ولا كفارة(21).
فكلٌّ مِن التّقسيمين يتناول جانبًا من جوانب الجرائم، وليس في التّقسيم القانوني محظورٌ، بل هو تقسيم اصطلاحي، ينظم قضايا المخالفات، لكن المحظور الحقيقي إن خالفت العقوبات الواردة في هذه القوانين للأحكام الشّرعية.
وقد مرَّ بنا سابقًا أنَّ للقانون العربي الموحد استعمالاً خاصّاً للمصطلحات في الدلالة على معانٍ مخصوصة، فإذ لم يكن في استخدامه هذا ما يخالف الشرع، فتبقى هذه مجردَ مصطلحاتٍ لا مشاحّة في استخدامها، كما تقرر عند أهل العلم.

*                 *                *

الاعتراض السابع: ليس في القانون تطبيقٌ للحدود الشرعية:
فالقانون العربي الموحّد ليس فيه تطبيقٌ للحدود الشرعية؟ فهل يوجد فيه حدُّ الرّجم مثلا؟!
ويجاب عن ذلك بما يلي:
تردّدت هذه الشبهة والتّهمة كثيرًا في الطّعن في القانون العربي الموحّد، وهي تدلّ على حقيقةٍ مرّةٍ: أنّ غالبيةَ المعترضين على القانون لم يكلّفوا أنفسَهم قراءة نصوص القانون، والاطلاع على موادّه، أو سؤال مَن اطّلع عليها، بل انطلقوا في اتهاماتهم مِن تقريراتٍ جعلوها مسلّمات بناء على تصوّراتٍ أنّ هذا القانون مأخوذ مِن القوانين الغربية أو غيرها، وقناعتهم المسبقة أنّ ما يصدر عن الدّول والحكام والمنظّمات لا بدّ أن يكون مصادماً للشريعة، متضمّناً للكفر بها، ولو أنهم قرؤوا واطّلعوا لرأوا المواد التي توافق الشريعة، وتذكر الحدودَ وتطبيقها بالنّص.
ويظهر مِن خلال هذا الاعتراض أيضاً حصر مسألة إقامة الشّريعة في تطبيق الحدود الشرعية، وتضخيم الحديث عنها، وجعل إيقاعها في كلّ حالٍ معياراً لإقامة الشّريعة وتحكيمها.
والحقيقةُ أنّ إقامة الشّرع أعمُّ مِن إقامة بعض الحدود والعقوبات، بل قد يكون مِن الشّرع عدمُ تطبيق بعض الحدود في بعض الأحوال كما هو معروفٌ مِن مذهب عددٍ من أهل العلم في الحروب، وقد صدرت بذلك العديد مِن الفتاوى في الحالة السورية(22).
و"القانون العربي الموحد" فيه مئاتُ المواد التي تتعلق بتحكيم الشريعة في الأمور المالية، والأسرية، وغيرها، ومِن أحد فروعه العقوبات الشرعية.
وقد تميز هذا القانون عن غيره مِن المدونات القانونية بعدّة مميّزات منها:
أولًا: الاعتمادُ على أحكام الشّريعة الإسلامية وحدَها، فهي المصدر الوحيد الذي تُصاغ منه جميع مواده، فقد ورد في خطة وضع القانون: "اعتماد القرآن الكريم والسُّنّة النبوية وما يؤول إليهما مِن إجماع أو قياس أو مصالح مرسلة دونَ التقيّد بمذهبٍ معيّن مِن مذاهب الفقه، وكذا مبادئ العدالة التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، مصادر للتّقنين الموحّدة"(23).
وقد ظهر مصداقُ ذلك في المواد التي نصّت على الحدود الشّرعية كما جاءت في الكتاب والسنّة، كالقصاص في قتل النفس وما دونها، وكالحدود الشرعية في الردّة والسّرقة والزنى وشرب الخمر، وغير ذلك.
كما بدا واضحًا اعتمادُه على أقضية الخلفاء الراشدين في عدّة مسائل.
ثانيًا: عدم الاعتماد على مذهبٍ فقهيٍّ واحدٍ في الأحكام، كما هو الشّأن في كثير مِن البلدان؛ فإنه لما صدرت "مجلة الأحكام العدلية" في أواخر الدولة العثمانية اقتصرت على المذهب الحنفي وهو المذهب المقضي به في الدّولة ، ومثل ذلك عندما دُونت "مجلة الأحكام العدلية" في البلاد السعودية على المذهب الحنبلي المعمول به في السعودية.
أمّا "القانون العربي الموحد" فقد اعتمد على الأخذ مِن جميع المذاهب الفقهية، ويظهر في كثيرٍ مِن الأحيان في المذكرات التّوضيحية ذكر الأقوال الفقهية، والموازنة والتّرجيح بينها.
وقد ضربنا أمثلة لذلك في الدراسة المذكورة(24).

*                 *                *

الاعتراض الثامن: الاعتراض  على قوانين التّأمين التجاري:
فالقانون العربي الموحّد يحتوي على موادَّ متعلقةٍ بالتأمين التجاري؛ وهي معاملة محرّمةٌ ومخالفة للشّرع، مما يعني أنَّ القانون العربي الموحد يحوي موادَّ مخالفةٍ للشّرع.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
نوافقهم على هذا الاعتراض؛ فالتّأمينُ التّجاري مِن المعاملات التي تحتوي على الغرر، والرّبا، والقمار، وبيع الدَّين بالدّين، وقد بينَّا هذا مفصلاً في دراستنا (القانون العربي الموحد دراسة نقدية)، وذكرنا أنَّ هذه المجموعة مِن القوانين (والتي بلغت ثلاثين مادة) هي مِن المواد القليلة المخالفة للصّواب مِن قولي أهل العلم في مجمل القانون.
وأوصينا بعدم الأخذ والتّعامل بها، والأخذ بالبديل الشّرعي عنها ألا وهو التّأمين التعاوني.
مع العلم أنّ بعضَ الفقهاء المعاصرين رأوا جواز التعامل بالتأمين التجاري، لكنه قولٌ مرجوحٌ في المسألة.
هل يضر وجود هذه المخالفة في القانون على شرعيته؟
ليس في القانون العربي الموحد مخالفات شرعية كثيرة، بل ليس فيه تعمّد لمخالفة الشريعة البتة، وإنما هي بضع مسائل اجتهد القائمون على تحرير مواد القانون في تقريرها بما يحقّق المصالح، ولا يخالف الشّرع في وجهة نظرهم فأخطأوا الصّواب، وأوضح تلك المسائل وأصرحها مسائل التأمين التجاري، فإذا استثنيت هذه المسائل ونُحّيت عن العمل فبقيةُ المسائل متوافقة مع الشرع، ولا ضرر.
ومعلومٌ أنّ مثلَ هذه المخالفات والأخطاء في إصابة الحقّ تعرِضُ لكثير مِن القضاة المجتهدين في تطبيق الشريعة، ويقع أضعافها لكثير مِن القضاة غير المؤهلين الذين يحاولون موافقة الشريعة في كثير مِن المحاكم الموجودة في الواقع السوري.

*                 *                *

الاعتراض التاسعالاعتراض على التعزيرات:
فالتّعزير يعود لاجتهاد القاضي بما يحقّقُ المصلحة، فتقنينُ التّعزيرات وتحديدها يخالف الحكمة مِن مشروعية التّعزيرات، ويصادم سببَ تشريعها.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
لا شك أنّ التعزير يختلف بحسب الزّمان والمكان، وبحسب الجاني والمجني عليه؛ إذ مراد التّعزير تحقيق المصلحة، وهو راجعٌ لتقدير القاضي، قال ابن القيم:" ثمّ لما كانت مفاسدُ الجرائم بعدُ متفاوتةً غير منضبطة في الشّدة والضّعف والقلّة والكثرة ... جُعلت عقوبتها راجعةً إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم، فمَن سوّى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمةَ الشرع، واختلفت عليه أقوالُ الصّحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وكثيرٌ مِن النصوص ... فيَظنُّ ذلك تعارضاً وتناقضاً، وإنما أُتى مِن قصور علمه وفهمه وبالله التوفيق"(25).
والعقوبةُ التّعزيرية يُطلِق عليها عددٌ مِن أهل العلم (السّياسة الشّرعية)، وهي تعني الحزمَ في إيقاع العقوبة، وتغليظَها عند الاقتضاء كما في قتل الجاسوس.
فينبغي أن يكون للقاضي فسحةٌ في اتخاذ حكم التّعزير، لأنَّ التعزير يُقصد منه زجرُ الجاني وردعُه، وإصلاحُه وتكفير سيئاته، وإنصافُ المجني عليه، وصلاحُ الناس واستقامتهم وسلامة مجتمعهم مِن الجرائم، أو تقليلها ما أمكن، وهو ليس محصورًا ولا توقيفيًا، بل يتجدّد في النوع بتجدّد الزّمان والمكان.
وقد نصَّ واضعو القانون في كثيرٍ مِن المواد على الحدّ الأدنى والأعلى للعقوبة، مما يجعل للقاضي فسحةً في الاختيار، على أنّ هذه التقديرات وإن كانت محلّ نقاشٍ ونظر فلا تعتبر مصادمةً للشّريعة مِن كلّ وجه، بل يمكن اعتبارُها داخلةً في اجتهاد وتقدير الحاكم للعقوبة بما يتناسب مع الجريمة وزمانها، لأنّ موادّ القانون كانت مقترحة على الحكّام في البلاد الإسلامية لتطبيقها.
وقد نبّهنا في دراستنا (القانون العربي الموحد دراسة نقدية) على بعض المسائل المتعلقة بباب التعزيرات، منها:
1- عدم التّضييق على القاضي في العقوبات التّعزيرية، ويمكن أن تكون موادُّ هذا القانون في الجانب التّعزيري مدخلاً للقاضي يستنير به في أحكامه، واقتراحاً غيرَ لازمٍ له يستأنس به.
2- عدم الأخذ ببعض التعزيرات المبالغ في شدّتها كتلك المتعلقة بعقوبة الاعتداء على رئيس الدّولة مثلاً؛  لعدم مناسبة العقوبة للجريمة في نظرنا.

*                 *                *

الاعتراض العاشرتبنّي القانون يؤدي الى زيادة الغلو:
فالعملُ بالقانون العربي الموحَّد يؤجج الغلوّ ويزيده؛ وذلك أنه سيكون ذريعةً للغلاة الرافضين لهذا القانون، والذين يزعمون أنَّ الطّرف الآخر يعمل على إزاحةَ الشّريعة، وتطبيقَ العلمانية.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
أنّ غلوّ هؤلاء وتكفيرهم وتخوينهم للمخالف لا يتوقّف على تطبيقِ القانون أو غيره، بل هو قائمٌ على شُبهٍ فاسدةٍ، وظنون كاسدة قبل ذلك، استحلوا بها الدّماء والأموال منذ وقت طويل، فغلوُّهم قديم وسابق.
ثم إنَّ توضيح طبيعة هذا القانون وما يتعلّق به مِن أحكام كفيلٌ بالردّ على مزاعم هؤلاء.
ولا ينبغي أن تكون أقوالُنا وأفعالنا ناتجة عن ردود أفعال ومواقف أهل الغلو أو غيرهم، بل ننطلق فيها مِن أحكام شرعية مبنيّة على أسسٍ علميةٍ راسخة، دون غلوٍّ أو تفريط، ولا يسوغ لنا أنْ نتركَ الحقَّ، وما ينفع المسلمين ويحقّق مصالحَهم خشيةَ الوصفِ بالتّضليل والتّبديع والتّكفير.
والمصالح المترتبة على تطبيق القانون مِن إرساء الشّريعة، وانضباط الأحكام، وحفظ الضّروريات الخمس هي أعظم مِن مصلحة إرضاء أهل الغلو الذين لا يرضيهم إلا أن يوافقهم جميع الناس على غلوّهم، فنسأل الله أن يصلحنا وإياهم، ويوفقنا للوسطية واتباع الشريعة على ما يحبه الله ويرضاه ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

_____________________________________

(1) ينظر: http://islamicsham.org/versions/1993.
(2) ينظر: http://www.gulfup.com/?KUY6HW.
(3) ينظر: http://sy-sic.com/?p=1503.
(4) سيردُ كثيرٌ مِن تلك النتائج والتوصيات أثناء نقاش الاعتراضات؛ لذا جرى تأخيرها لموضعها.
(5) وسيأتي الحديث عنها في الاعتراض الثامن والتاسع.
(6) ومِن هؤلاء الشيخ أسامة بن عايد اليتيم رئيس دار العدل في حوران، الذي اغتالته يد الغدر والإجرام يوم الثلاثاء 4 ربيع أول 1437ه، الموافق 15 كانون الأول / ديسمبر 2015م رحمه الله رحمة واسعة.
(7) ينظر: تاج العروس (36/24)، وينظر: لسان العرب (13/350).
(8) ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة (3/1864).
(9) مجموع الفتاوى (3/41).
(10) أخرجه البخاري (3/101، برقم2311).
(11) أخرجه الترمذي (4/220، برقم 1726)، وابن ماجه (4/459، برقم 3367): مِن حديث سلمان الفارسي، وقال الحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/129): هذا حديث صحيح، وقال الألباني: حسن، وقال شعيب الأرناؤوط: حسن بمجموع طرقه وشواهده.
(12) أخرجه مسلم (4/1836، رقم 2363) مِن حديث أنس بن مالك.
(13) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/260).
(14) المدخل الفقهي العام، د. مصطفى الزرقا (1/313).
(15) المستدرك على مجموع الفتاوى (3/206)، ومثله لابن القيم في إعلام الموقعين (3/224).
(16) ينظر: مختصر التّحرير شرح الكوكب المنير (1/50).
(17) ينظر: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، د. محمد مصطفى الزحيلي (1/226) .
(18) ينظر:
http://almuslimalmuaser.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=652:eltaksem
(19) ينظر: الروض المربع شرح زاد المستقنع ص (662).
(20) ينظر: تحرير ألفاظ التنبيه ص (293).
(21) ينظر: شرح منتهى الإرادات (3/364).
(22) ينظر فتوى: هل تقام الحدود والعقوبات في المناطق المحررة من سوريا في الوقت الحالي؟ http://islamicsham.org/fatawa/1423.
(23) ينظر: خطة صنعاء لتوحيد التشريعات العربية ص2، وهو مذكور في دراسة هيئة الشام ص (7).
(24) ينظر: دراسة هيئة الشام  ص (11).
(25) ينظر: إعلام الموقعين (2/ 128).