إنها لحياة طويلة!

أبي الوليد الخميسي

روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه"، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم"، قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قول بخ بخ؟!"، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها"، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل)

نعم إنها لحياة طويلة، وقد زادت على طولها طولا يوم أن زادت على حبات التمر التي أبى أن يأكلها ذلك الصحابي إلا في ظلال الجنة... زادت عليها ملذّات الحياة ووصلت بنا إلى الترف الذي صنع لنا من الذلّ كؤوسا تجرعنا منها حتى الثمالة...

ومما زاد الطين بلّة؛ هو أننا ربما صبت نفوسنا إلى ما هو محظور شرعا، فقيّدنا أنفسنا بأيدينا وما استفقنا إلا ونحن نرسف في قيود الذلّ، وقد أحكمها الهوى وفعل المحظور وترك المأمور.

وصدق علينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).

فاستعبَدَنا الذلّ والطمع وقيَّدَنا الحرص والجشع، وأصبحنا جسدا قد نشبت فيه مخالب العدى وأنيابهم... جسدا لا حامي له ولا حمى... وتداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.

فصدق علينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت) [أخرجه أبو داود].

ونُهش جسد الأمة، وطُعنت في ظهرها، وأُشربت كأسا من السمّ لا ترياق له إلا عودة محمودة إلى حظيرة الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}.

هذا الإسلام الذي قال فيه فاروق هذه الأمة وأحد خلفائها الراشدون وأحد المبشرين بالجنة: (كنا أذلاّء فأعزّنا الله بهذا الدين، ومن ابتغى العزّة في غير دين الله أذلّه الله).

وبعد هذا...

هل من استفاقة من هذا الرقاد الطويل؟... وهل من عودة إلى دين الله الجليل؟... وهل من همم؛ وقفا لله، تستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى.

أو بالأحرى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا مشمّر للجنة ؟... هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتزّ، ونهر مطرد، وزوجة حسناء جميلة في روضة وحبرة، في إقامة أبدا) [رواه ابن ماجه].

نعم أيها الإخوة الأحبة...

إنه لا بد من استقرار حقيقة في النفوس وتيقّنها أنه ليس ثمّة فريق ثالث، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}، فإنك إن لم تكن من أصحاب الجنة فإنك في الأخرى والعياذ بالله، لذلك فليعمل كل واحد منا لنيل هذه الرتبة.

وإن كنا مقصّرين مذنبين مخطئين، وهي بتوفيق الله عز وجل وحده؛ ولكن إذا قصرت همّتنا عن إدراك المطالب العليّة وتقاعست عن العمل لبلوغ كل منزلة سويّة، فإن استحضار قاعدة لا فريق ثالث بل هما فريقان؛ يشحذ همة العاملين، ويوقظ النائمين، ويبعث الأمل في نفوس المقصّرين للإنبعاث من جديد، والله عز وجل وحده غافر الذنوب ولديه مزيد.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها) [رواه مسلم].

ولكن نقول لربنا جلّ في علاه وهو الرحمن الرحيم؛ أخرَسَنا تفريطنا وأنطَقَنا جودك، وثقل لساننا وأنطقتنا رحمتك وفضلك وسعة كرمك، ومع تقصيرنا فإننا معترفون بذنوبنا ومعاصينا، وأنت أرحم الراحمين، فجد من فضلك علينا ولا تجعلنا من القانطين.

واعلموا أيها الأحبة...

أن العزّ لا يكون إلا بقطف الرؤوس، وتطاير الأشلاء، على جنبات الطريق المرسومة معالمه بالدماء الطاهرة والأنفس الزكية، قال الشاعر:

جدر المذلة لا تدك

 

بغير زخات الرصاص

والحر لا يُلقي القياد

 

لكل كفَّار وعاص

وبغير نضح الدم لا

 

يُمحى الهوان عن النواصي